
الياس خوري
القدس العربي
27082019
كما في بيروت كذلك في رام الله، وكما في جبيل كذلك في أم الفحم. إنه قوس الانحطاط، تامر نفار الفنان الفلسطيني الرائع وفرقته «دام»، يمنعون من الغناء في أم الفحم، وسط حملة تتستر بالقيم الاجتماعية والأخلاق، والشرطة الفلسطينية تقرر ملاحقة أفراد جمعية «القوس»، الذين دعوا إلى ورشة عمل في نابلس تناقش مسألة التعددية الجنسية.
كلام شيخ جامع اللد يوسف الباز على صفحته في الـ «فيسبوك» ذكّرني بالكاهن عبدو أبو كسم والمركز الكاثوليكي للإعلام في بيروت، كأن العتمة تلف الرجلين، بحيث تخالهما رجلاً واحداً ينطق بلسان الدفاع عن الأديان والقيم، كأن على الأديان أن تُبتلى، كما ابتليت المجتمعات، بمدافعين هم أسوأ من الخصوم.
أما بيان المتحدث باسم الشرطة الفلسطينية لؤي ارزيقات، فعدا عن أخطائه اللغوية، فإنه يتضمن دعوة إلى العنف الاجتماعي وإلى تحويل المواطنين إلى مخبرين ضد نشاطات المثليين، كما يلجأ إلى قاموس القيم الاجتماعية والأخلاقية في سبيل تبرير قرار ملاحقة جمعية «قوس» في فلسطين.
هذه الممارسات والمواقف تثير الخوف والضحك في آن معاً، فمجتمعاتنا تواجه لحظة تفكك في نظام قيمها سمح للأصوات الآتية من قعر الانحطاط بأن تتسيّد، وتقود مجتمعات يائسة إلى الخراب.
تعالوا نقرأ بهدوء ماذا يجري وسط فوضى القيم التي نعيش فيها.
في لبنان اتخذ الانهيار الأخلاقي «كسم» تحويل الدين المسيحي إلى أداة لقمع الفن، ولسان حال المرجعيات الدينية يقول إن النموذج الأصولي يجب أن يشمل المسيحيين أيضاً.
(للتوضيح فكلمة كسم، حسب المعلم أنيس فريحة، في «معجم الألفاظ العامية» يونانية الأصل دخلت في السريانية قبل أن تصير جزءاً من العربية المحكية، وهي تعني «الزي والقالب والشكل، فيقولون كسّم الثوب، أي جعله يلائم شكل لابسه»).
انطلقت هستيريا الدعوات إلى القتل في لبنان تحت مظلة الدين، من أجل منع فرقة غنائية من تقديم حفلتها في مهرجانات جبيل. ووصلت الأمور إلى ذروتين، الأولى مخيفة عبر تعريض اثنين من أعضاء الفرقة للاعتقال والتحقيق والضرب، والثانية مضحكة عبر الطلب من الفرقة الاعتذار عن إساءتها لرموز مسيحية.
لا تفسير لهذا الانهيار سوى أنه أحد تعبيرات انهيار النصاب السياسي والأخلاقي في لبنان. فلبنان يواجه واقع كونفدرالية الطوائف واللصوص التي أوصلته إلى حافة الانهيار الاقتصادي من جهة، كما يتلقى ضربات قيادات عنصرية تعتقد أنها تستطيع الوصول إلى الزعامة عبر خطاب طائفي معاد للاجئين والغرباء من جهة ثانية.
هكذا تحولت الرقابة التي يمارسها الأمن العام على المصنفات الفنية إلى أداة في أيدي المؤسسة الدينية الإسلامية والمسيحية التي لا تفقه معنى الثقافة، ولا علاقة لها بتاريخ الثقافة في بيروت، التي كانت وعاء حرية الثقافة العربية في زمن الديكتاتوريات العسكرية.
واللافت أن هذا الزمن الأحمق يستند إلى المفاهيم الأخلاقية البطريركية، ولا يعرف أن الأخلاق هي رؤية كاملة لاحترام الحريات الفردية، وأن مقياسها هو النظر العقلي.
الخراب الأخلاقي اللبناني الذي يضرب اليوم ثقافة الحرية ليس سوى انعكاس لحالة الانهيار العربية الشاملة، حيث فقد المشرق العربي وزنه السياسي، وتحوّل إلى حقول للموت والخراب.
أما في فلسطين، فالحكاية لها نكهة أخرى.
ففي الوطن المحتل، حيث يقول المنطق البسيط إن على قوى المجتمع التوّحد من أجل مقاومة احتلال يصنع في كل يوم نكبة فلسطينية جديدة، يأتي بيان الشرطة ليضفي شكلاً غرائبياً على الموقف.
لن نقول ما يعرفه الجميع عن كيفية تصرّف رجال الأمن الوطني عندما يدخل الجنود الإسرائيليون إلى المنطقة المسماة ألف. مشهد رجال الأمن المهين وهم يديرون وجوههم إلى الحيطان وينزلون أسلحتهم هو المشهد. بدلاً من أن يرفع المتحدث باسم الشرطة صوت الأخلاق ضد منظمة مدنية تضع في رأس أولوياتها مقاومة الاحتلال، كان عليه أولاً أن يرفع رأسه في مواجهة جحافل المحتلين. هل إدارة الوجه إلى الحائط موقف أخلاقي، كي يحق للمتحدث باسم الشرطة أن يعطينا دروساً في الأخلاق؟
العلامة الأولى للأخلاق هي الكرامة، من يسفح كرامته وكرامة سلاحه لا يحق له أن يعطي أحداً دروساً في الأخلاق.
أما حكاية تامر نفار ومنعه من قبل بلدية أم الفحم، فهي تحمل «الكسم» نفسه لمنع «مشروع ليلى». خطاب التعصب والاستبداد ورفض الحرية باسم الأخلاق والدين واحد، ونص الشيخ اللداوي حين وصف تامر بأنه «أوطى من الكندرة»، يشبه نصوص المدافعين عن العذراء التي انتشرت ونشرت التهديدات في لبنان. لم ينتصر تامر نفّار حين حكمت المحكمة بحقه في الغناء في أم الفحم، لكنه انتصر حين أعطى درساً في الأخلاق لبلدية أم الفحم، التي استقبلت زعيم حركة «شاس» اليمينية الدينية أرييه درعي، معلناً أنه يرفض الغناء بحماية شرطة المحتل.
هذا هو الفرق بين أخلاقنا وأخلاقهم، في بيروت أقيم حفل غنائي كبير احتجاجاً على المنع، وفي فلسطين رفض المغنّي أن يغني، لأنه يمثّل قيماً أخلاقية عميقة الجذور، ترفض الانحناء للاحتلال، أو التعامل مع رموزه.
المسألة أكبر من حفل غنائي أو قمع جمعية مدنية، المسألة تتعلق بمناخ ثقافي- اجتماعي خانق، يتسيّد فيه الانحطاط، وتخترقه التماعات ضوء فنية وثقافية، تبني أفقاً للحرية.
المعارك الثقافية، على الرغم من أنها تبدو هامشية، تشكل اليوم ميدان نضال حقيقي، إذ إن شرط الخروج من قوس الانحطاط، هو تأسيس مبنى أخلاقي –ثقافي جديد يرسم أفقاً لإعادة الروح إلى بلادنا.