
غادة السمان
Apr 07, 2018
القدس العربي
وقفتي اليوم مع كتاب الشاعر لامع الحر عن «آخر امراء الشعر العربي ـ سعيد عقل» وهو عنوان كتابه الجديد الذي يكاد يصالحنا مع سعيد عقل نحن الذين أحببنا شعره المبدع وجرح حبنا (بانعزاليته) حين قرر الكتابة (باللغا اللبنانييّ) العامية بل وبشّر بكتابة العربية بالحروف اللاتينية، هذا ناهيك عن كراهيته للفلسطينيين وبقية (الغرباء) في لبنان!
عشّاق اللغة العربية مثلي، دونما التباس أو خطوط رجعة أو مفاوضات حزنوا لأن (الأمير) الشعري هبط إلى المستنقع الانعزالي المتستر بالمجد الفينيقي الذي لا ينكره أحد لكنه لا يكفي ذريعة للتخلي عن لغة صنعت وحدها مجد سعيد عقل والجواهري ومحمود درويش ونزار قباني و..و.. وقبلهم جميعاً المتنبي مثلاً..
مفاتيح أتقن لامع استعمالها
قلب الشاعر سلحفاة، تهرب إلى أقاصي صدفتها أمام أي سؤال عدواني وترفع جسورها كقلعة.
لم يقع الشاعر لامع الحر في ذلك الفخ الحواري للعدوانية المسبقة وعلى الرغم من كثرة ما كُتب عن وضد سعيد عقل وجد لامع «مفاتيح جديدة لسبر أغواره واقتحام عالمه الشعري» وأول تلك المفاتيح دفء القلب والاحترام للإبداع.
يقول لامع الحر: «تمكنت من نسج علاقة جيدة معه على الرغم من الخلافات الفكرية الطاغية بيننا وعلى الرغم من الرؤية الثقافية المتباينة إلى كثير من الأمور».
وهذا صحيح، ولامع عارف الحر ذاق السجن الإسرائيلي حين اقتاده العدو إلى المعتقل الشهير في «انصار» جنوب لبنان. وخرج من المعتقل خلال التبادل بين الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية..
حاز لامع الحر الكثير من الجوائز الأدبية لكن ذلك لم يفقده توازنه الأبجدي للمبدع المختلف. بل وبلغ من حب عقل لذلك المرهف المختلف فكرياً، كتابة كلمة شعرية جميلة عنه حيث يقول: «يا خيي لامع/إذا قدرت أشكرك/بكلمة ترضي قلبك/لرقصلك/عمود بعلبك».
شخصية ملتبسة متعددة
وإذا كان سعيد عقل يريد (ترقيص) أعمدة بعلبك للشاعر لامع الحر إلا انه يتكبر حتى على المتنبي حين يقــــول في أحــد حواراته مع لامع: «شعري أنا أعمـــق من شعر المتنبي». أو «لا تتصور ان المتنبي لديه شعر ومقدس ومُعظم مثل سعيد عقل»! ويتحدث في الحوار عن نفسه مرات عديدة بصيغة الآخر كما لو يصف صنماً خارجه: هو صورته كما يراها في مرآة الغرور.. لكن لامع ينجح حين يجعلنا ننظر إلى غروره كما ننظر إلى (ملعنات) الأطفال، ويلفتنا بالتالي إلى طفولة شاعر يكاد يبلغ القرن من العمر، وإلى الطفولة الكامنة في قلوب الشعراء كلهم بدرجات متفاوتة ومن لا يتعامل معهم على هذا النحو لا يظفر بحوار هو في جوهره وثيقة أدبية استثنائية عن أحد شعراء العربية الكبار.. الذي خان حبه حين قرر التخلي عن اللغة العربية وخان حبنا له.
أسئلة استفزازية في قفاز مخملي
ينجح لامع الحر في طرح أسئلة تكاد تكون استفزازية وتحرض عقل على البوح ولكن مخالب تلك الأسئلة ترتدي قفازاً مخملياً من المحبة الصادقة لفضائل عقل، كأن الحب هو أن تتجاوز أخطاء الآخر وعلله.. وتسلّط بقعة الضوء على الجميل والمبدع لديه كأننا في الكتاب أمام ملحمة في جمالية الود الأبجدي والاحترام لعطاء الآخر رغم خطاياه.. ونجد أنفسنا أمام لبنانيين: أحدهما يكره الفلسطيني والسوري ويتنصل حتى من لغة صنعت مجده، وآخر شاب هو لامع في سن حفيده يعلمه درساً غير مباشر في التسامح واحترام إبداع الآخر كأنه يصرخ بالجميع: من كان منكم بلا خطيئة سياسية فليرم المبدع سعيد عقل بحجر.
يسأل لامع الحر سعيد عقل: هناك من يعتبر أن معجم سعيد عقل الشعري محدود جداً لا يتجاوز قرابة ست مئة كلمة، لماذا؟ يرد سعيد عقل من خلف درع الغرور: إذا العرب أعطوا سعيد عقل كل مئة سنة لعاشوا مليار سنة! لكنه لم يجب على السؤال! ذلك لا ينفي أن لامع ينبش في أعماق سعيد عقل كنوزه كقول عقل: التقليد شيء، والاقتداء شيء آخر، إذا كانوا يقتدون بسعيد عقل فهذا شيء حلو، أما الذين يقلدونه فهؤلاء كأنهم يكتبون نكتاً.. لا نحترم المقلد.. أما الذي يقتدي فهذا شيء عظيم.
بين قناع التواضع والغرور العاري
محاورات الحر مع عقل التي نُشرت في «مجلة الشراع» اللبنانية أولاً ثم في هذا الكتاب الصادر عن «دار نلسن» هي وثيقة أدبية تاريخية يستحق القراءة وفيه صدق طريف المغرور إذ يقول عقل رأيه في بقية الشعراء حين يستدرجه لامع الحر إلى ذلك بذكاء إعلامي ونقرأ آراء سعيد عقل:
ـ شعري أنا أعمق من شعر المتنبي!
ـ لا تتصور أن المتنبي لديه شعر مقدس ويكرم مثل شعر سعيد عقل.
ـ أدونيس: كان «يحرتق» على الشعراء، وإسأله: إلى أي مدى تأثر بشعر سعيد عقل؟
ـ لم ينل شاعر عربي ولا إفرنجي التكريم الذي حصلت عليه!
ـ عمر أبو ريشة؟ شاعر كنت أحبه. لديه شعر حلو.
ـ أحمد شوقي؟ يكفي أن يكون تغنّى بزحلة (مسقط رأس عقل)!
ـ الأخطل الصغير: لديه شعر حلو.
ـ الياس أبو شبكة: شاعر «كرهتجي» (أي محترف كراهية)، (كما لو أن سعيد عقل ليس «كرهتجي» أيضاً!) والمجال لا يتسع لذكر المزيد! ولكن غرور عقل يذكّرنا بغرور المتنبي حين صاح: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي مَن به صمم.
إنه كتاب فيه الطرافة والعمق والسيرة ودفء القلب ويستحق القراءة ونجد فيه صفحات من التسامح إكراماً للحوار مع مبدع، قارب عمره القرن من الزمن (وقت الحوار)!