سعيد خطيبي
Feb 10, 2018
القدس العربي

أخيراً صار «نايرْ»، أو رأس السنة الأمازيغية (المُصادف 12 يناير/كانون الثاني، من كل عام)، يوماً وطنياً وعطلة مدفوعة الأجر، في الجزائر، فقد انتظر الأمازيغ، طويلاً، لتلين السلطة من مواقفها، وتعترف بهم، وهذا الأمر لم يكن هدية من النظام، بل هو نتاج عقود من التضحيات، فالأمازيغ هم أكثر الجماعات الثقافية نشاطاً، في البلد، وأكثرهم تنظيماً، ومطالبهم كانت واضحة من البداية: تحقيق تعددية ثقافية، الإقرار بلغتهم كلغة وطنية، ومنحهم الحق في المُجاهرة بهويتهم التاريخية، فمنذ الربيع البربري 1980، مروراً بالربيع الأسود 2001، تعاقبت أجيال، في الدفاع عن المكون الأمازيغي، في البلد، وتزامن الإقرار برأس السنة الأمازيغية، مع حدث آخر لا يقل أهمية، وهو الاحتفال الرسمي بمئوية ميلاد مولود معمري (1917 ـ 1989)، واحد من عرابي الثقافة الأمازيغية، ليس في الجزائر فقط، بل في شمال إفريقياً إجمالاً.
الأمازيغية لا يُقصد منها فقط لغة، أو أدباً معيناً، هي ثقافة بحد ذاتها، تعود إلى القرون الأولى، مع أبوليوس (125 ـ 170) مثلاً (صاحب رواية «الحمار الذهبي»)، ولم تنقطع إلى اليوم. كما ذكر موسى حرباوي، فإن الأمازيغي، في شمال إفريقيا، كان يكتب ويعبر عن نفسه انطلاقاً من حساسية مختلفة، أما اللغات، التي كان يستخدمها، من لاتينية أو إغريقية أو عربية أو فرنسية، فهي ليست سوى نتاج «صدمات تاريخية»، فرغم أن الأمازيغي كان «يُهجر»، باستمرار، من لغته إلى لغات أخرى، فقد كان يُحافظ على شخصيته المستقلة في الكتابة. تغير اللغات، التي فُرضت تاريخياً على الأمازيغي، لم تزده سوى تعلق بهويته الأصلية.
الأمازيغي، الذي يسكن الجبل والساحل والصحراء، ويتصارع، كل يوم، مع الطبيعة، هو «حكاء» بالدرجة الأولى، فالثقافة الأمازيغية تجعل من الحكي أسلوباً للتحاور مع الجوار وللتعبير عن ذاتها. صحيح أن جزءًا كبيراً من الأدب الأمازيغي هو أدب شفهي، وهي خاصية تتمدد في غالبية الثقافات الإفريقية الأخرى، والسبب في ذلك هو ما تعرض له الأمازيغي، من طوابير المستعمرين، حيث كان كل مُستعمر يحاول أن يحقن لغة مختلفة، في لسانه، ليجد الأمازيغي نفسه، مشتتاً بين لغتين: لغة البيت والأم والحكايات، ولغة الخارج، التي وصلت إليه مع الاحتلال. الرجل كان أكثر عرضة لهذا التشوه اللساني، لذلك فإن القصص الأمازيغية كانت «صنعة نسائية»، كانت المرأة، في الداخل، هي التي تخترع القصة، وتُحافظ عليها، وقد ابتكرن شخصيات أسطورية، تخص الثقافة الأمازيغية وحدها، ما تزال معروفة، ومتداولة، إلى غاية اليوم، مثل شخصية «مْقيدشْ»، التي سنجد شبهاً لها في شخصية «عقلة الإصبع»، في الثقافة الفرنسية، وهي شخصية، قصيرة القامة، وذكية، تُساعد الآخرين، وتنقذ الفقراء والمحتاجين.
تلك القصص الأمازيغية الأسطورية، ستتحول، لاحقاً، إلى أغانٍ، وتلقى نجاحاً، في الجزائر وخارجها، على غرار أغنية «أفانا ينوفا» (يا أبي)، التي لحنها وأداها إيدير، في أواسط السبعينيات، من القرن الماضي، وهي أغنية تحكي قصة رجل وابنته، ووحش يلاحقهما. الأغنية نفسها أعاد أداءها مغنون كثر، بالعربية والفرنسية والتركية والإسبانية واليونانية. من جانبه، الشعر الأمازيغي أيضاً لم يحظى بالاهتمام، الذي يليق به، ويرجع السبب إلى ضعف الترجمات، إلى اللغات الأخرى، فأشهر شعراء الأمازيغ، في الجزائر، هو محند أو محند (1848 ـ 1905)، وتعود شهرته إلى ترجمات قصائده، التي تصدى لها الكاتبان المعروفان مولود فرعون ومولود معمري، مع أن المدونة الأمازيغية تعج بشعراء آخرين مهمين، فالشعر هو من ضروب الأدب، الأكثر حضوراً، في يوميات الأمازيغ، من شعر المتصوفة إلى شعر اليومي، حيث أن كل واحدة من مراحل الموسم الزراعي، تُرافقها مجموعة من الأشعار الشفوية، التي يحفظها الناس، عن ظهر قلب، كما كان الشعر الأمازيغي يؤرخ للأحداث التاريخية، لكنها لم تخرج من دائرة المحلية، ولم تصل إلى المتلقي غير الأمازيغي، فهذا الشعر يوفر لنا مادة للاطلاع على تطورات مجتمع الأمازيغي وتحولاته وفهم العلاقات الإنسانية، التي كانت تجمع بين أفراده. يشير مولود معمري في واحد من مقالاته إلى أن أول ديوان شعر بالأمازيغية، يعود إلى 1867، لكن نظم الشعر عند الأمازيغ، يعود إلى نهايات القرن السادس عشر، كان، في الغالب، شعراً تلقائياً، لم يكتب ولم يُحفظ في مخطوطات، ما عجل باختفائه مع الوقت.
بدءًا من خمسينيات القرن الماضي، سينتقل الشعر الأمازيغي إلى القصيدة الغنائية، وهو ما سيتكرس، خصوصاً في السبعينيات، مع ظهور مغنين أمازيغ، يركزون في أدائهم على النص أكثر من اللحن، على غرار لونيس آيت منقلات (1950 ـ )، الذي أعاد انتباه المتلقين للشعراء الأمازيغ، بدون أن ننسى الدور الذي لعبه ملحن ومغن آخر هو شريف خدام (1927 ـ 2012)، الذي يعتبر من رواد الأغنية الأمازيغية، ومن المجددين في الأغنية الجزائرية إجمالاً، وهو الذي فتح الطريق لوصول مغنين آخرين، استعادوا ريبرتوار الشعر الأمازيغي، من أمثال إيدير، فرقة جرجرة، مليكة دومران وجمال علام وغيرهم. هكذا، فقد أعادت الأغنية إحياء القصيدة، أعادت الأغنية التعريف بالهوية الأمازيغية، ومع ما تعرض له الحكي والشعر الأمازيغيين من التغييب، فقد باتت الأغنية الأمازيغية جزءاً ثابتاً في المشهد الفني للبلد، لا يمكن أن نتصور الجزائر بدون المغنين الأمازيغ، والمغنون الأمازيغ هم الوحيدون، في البلد، الذين امتلكوا ناصية الشعر، وغالباً ما يتم تقديم كل واحد منهم بصيغة: الشاعر والمغني فلان.
يذكر عبد الرحمن الوناس، في «أنطولوجيا الأدب الجزائري، باللسان الأمازيغي»، أن أول كتاب في النحو الأمازيغي، يعود إلى 1887، أصدره بلقاسم بن سديرة (1845 ـ 1901)، وهو الكتاب، الذي ستتأسس عليه اللغة الأمازيغية المُعاصرة، كما مهد كتاب بن سديرة لظهور الأدب الأمازيغي، المكتوب، حيث توالت بعد ذلك الإصدارات، ربما أهمها الأعمال، التي نشرها بلعيد إزارار (1909 ـ 1950)، خصوصا كتابه «دفاتر»، الذي تضمن قصصاً وأشعاراً، كتبت مباشرة بالأمازيغية. وهنا من المهم التوقف عند نقطة مهمة: هل نكتب الأمازيغية بالحرف العربي أم بالحرف اللاتيني؟ هذا السؤال ما يزال يثير كثيراً من الحساسيات، في الجزائر، لكن مراجعة تاريخية للنصوص الأمازيغية تبين أن النصوص الدينية، وكتب العقيدة، وحدها كانت تكتب بالحرف العربي، أما النصوص الأدبية فقد كتبت، في غالبيتها، بالحرف اللاتيني، بسبب أن غالبية الكتاب تخرجوا في المدرسة الفرنسية، سنوات الاحتلال، وهو في الحقيقة سؤال هامشـــــي، لأن الأمازيغي حين يكتب يهمه أن يعبر عن هويته، عن خصوصيـــته، أما الحرف الذي يكتب به، سواءً كان عربياً أو لاتينياً، فهو من الثانويات، مع أن أهم المختصين في الثقافة الأمازيغية، مثل مولود معمري، فضلوا الحرف اللاتيني، لتسهيل تلقي النص الأمازيغـــــي، ووصوله إلى أوسع شريحة من القراء، وهو خيار منطقي، وبراغماتي، ولا تدخل فيه حساسية منطقاتية أو إثنية، وأثبت نجاعته، في السنوات الماضية.
كما ذكرنا ـ سلفاً ـ الأمازيغية لا تحد في التعبير بلسان أمازيغي، بل هي هوية وثقافة، وكثير من الكتاب الجزائريين الأمازيغ، يكتبون بالعربية أو بالفرنسية، كرسوا اختلافهم، وتفردهم، رغم أنهم يكتبون بغير لغتهم الأم، ولكن من عمق أمازيغيتهم، على غرار طاووس عمروش، نبيل فارس، الطاهر جاووت وغيرهم، فالأدب الذي كتبه الأمازيغ، في الجزائر، يعد من النقاط المضيئة، في التجربة الأدبية إجمالاً، في البلد.
في السنوات الأولى التي أعقبت استقلال الجزائر، واجهت السلطة المركزية حركات احتجاج وغضب، تركزت في مناطق الأمازيغ، لهذا سارعت إلى قمعها، حفاظاً على كرسيها، هكذا مالت السلطة إلى ربط الهوية والثقافة الأمازيغتين بالحراك السياسي، وقامت بخنق صوتها، لكن استمرار النضالات، شرع نوافذ للمثقفين الأمازيغ، استطاعوا، بعد عقود من الاستقلال، من الصعود تدريجياً، إلى السطح، والاعتراف برأس السنة الأمازيغية، يأتي سنوات بعد دسترة اللغة الأمازيغية، ثم بداية ظهور منشورات بالأمازيغية في المكتبات، وصارت دور النشر لا تخجل من إصدار مطبوعات بهذه اللغة، بل إننا نجد اليوم جائزتين مهمتين تدعمهما الحكومة، موجهتين للأدب المكتوب بالأمازيغية، هما جائزة محمد ديب وجائزة آسيا جبار، وهو أمر لم يكن أحد يتخيله، قبل عشرين عاماً من الآن.
٭ كاتب جزائري