10-07-2023 | 00:00 المصدر: “النهار”

بيار صادق.
يهمّني باختصارٍ شديد، في الذكرى العاشرة لغياب #بيار صادق (1938-2013)، أنْ أقول إنّه كان شخصًا خطيرًا للغاية.
تكمن خطورته في ذكاء رسمه وكاريكاتوره، وفي نفاذه إلى أعماق هذا الفنّ، إلى طبقاته ومراتبه، وفي شغله على تظهير خصوصيّاته، وفي تعميمه، بما يجعله عملًا ثقافيًّا ونخبويًّا وخصوصيًّا ومتميّزًا ومختلفًا، ويجعله في الآن نفسه ملكًا للحيّز العامّ، وفي متناول الجمهور الواسع.
أحسنُ ما فيه، بل أجملُ ما فيه، بل أنبلُه، أنّ بيار صادق لم يوظّف هذا الذكاء الفنّي الخطير في خدمة الشرّ، ولا في خدمة الاستبداد، ولا في خدمة الفساد، بل في خدمة الأفكار والقيم التي آمن بها، وفي مقدمها الحرّيّة، وما يحفّ بها من خيرٍ وجمالٍ وأنسنة، ومن مستلزماتٍ وطنيّةٍ وسياسيّةٍ ومجتمعيّة.
لقد أدرك بيار صادق، بموهبته الرؤيوية النفّاذة، أنّ #الكاريكاتور، الذي كان ملعبَه الأثير، هو فنٌّ ماكرٌ للغاية، بما يُظهِره من معنىً قريب المتناول، هو الجانبُ البيِّن والظاهر منه، وبما يستبطنه من رموزٍ وإيحاءاتٍ وأبعادٍ ودلالات، وهو المستورُ الخفيُّ فيه.
على هذين الحبلَين الدقيقَين المرهفَين، كان بيار صادق يلعب لعبتَه الخطيرة، ويمارس فنّه الذكيّ، منخرطًا حتّى العظم في قيادة الرأي العامّ، ومضطلعًا بدوره الثقافيّ – المجتمعيّ – السياسيّ – الوطنيّ، الشديد التأثير والفاعلية والجدوى.
خطورةُ بيار صادق المتعدّدة والمتنوّعة والمتصاعدة هذه، كانت إيجابيّةً لا سلبيّة. نظيفةً لا ملوّثة. خيِّرةً وليست شرّيرةً ولا جهنّميّة.
وهي خطورةٌ، إذ تتلبّس الفنّ، وترفع لواءه، ظاهرًا وباطنًا، شكلًا ومضمونًا، خطًّا وحبرًا أسوَد ولونًا، كانت في الآن نفسه، تمارس فعلًا ثقافيًّا يحمل الفنّ إلى ما هو أرحب مدى، وما هو أشمل، وأكثر تعقيدًا، حيث تصبح الثقافة التزامًا انسانيًّا يحتلّ الكائنُ البشريّ فيه مرتبةَ الجوهر، وتكون السياسة والوطنيّة فيه بعضًا من هواجس هذا الالتزام وهمومه وتجلياته.
هذا الكاريكاتور الماكر، كان ظاهرُه هازلًا، مُسلّيًا، خفيفًا، ناقدًا، وكان في مقدور المتلقّي أنْ يستغرق فيه، فيستطيب ما يُعرَض أمامه، مكتفيًا به، ومعربًا عن ارتياحه للخدمة التي تقدّمها إليه الجريدةُ أو الشاشةُ أو وسيلةُ التواصل الاجتماعيّ أو سواها من وسائط التفاعل.
لكنّ المكرَ، كلّ المكر، أنّ هذا الكاريكاتور كان يفعل فعله السحريّ في المتلقّي الفرديّ والجماعيّ، وفي الفضاء العموميّ، وفي الرأي العامّ، محفِّزًا، مستنهِضًا، مستثيرًا، محرِّضًا، من دون أنْ يدّعي ذلك، أو يستعرض، أو حتّى أنْ يتفلسف.
كاريكاتور بيار صادق، ماكرٌ ليس لأنه ناجحٌ فنّيًّا فحسب.
صحيح أنّه كاريكاتورٌ – بيار صادقيّ – فنّيًا؛ بسيطٌ، مباشرٌ، خادِعٌ، متسلِّلٌ، مدغدِغٌ، منشِّطٌ، قارصٌ، عاقصٌ، ناخعٌ، ناكزٌ، لاكزٌ (كالمسّاس)، ناهشٌ، ومُضَحِّكٌ، في الآن نفسه.
لكنّ الصحيح أيضًا أنه كاريكاتورٌ ذكيّ، ملتزم، حرّ، سيّد، مستقلّ، مناضل، وبعيد المدى.
وبسببٍ من هذا وذاك، هو يوقِع المتلقّي في حبائله الماكرة.
وها هنا تكمن خطورة بيار صادق.
في ذكرى غيابكَ العاشرة، يا بيار، كم لبنان، كم دولة لبنان “الواقفة على صوص ونقطة”، كم نحن اللبنانيّين، في حاجةٍ إلى مثل خطورتكَ النقيّة النبيلة، الآن، وهنا.
سلامي إلى بيار صادق.
akl.awit@annahar.com.lb