سعدون حمادة
30 آذار 2017
النهار
مهما منح المنصب شاغله من سلطة وتمكن تبقى شخصيته وحكمته وخبرته وأسلوبه في مباشرة مهماته، العامل الأبرز في مدى ما يمكن أن يترك هذا المنصب من تأثير وأثر ويتمتع به من فعالية وبريق.
في فترة زمنية كادت أن تقارب النصف قرن رافق فرنسوا أبي صعب خلالها تسعة عشر سفيراً تعاقبوا على تمثيل الدولة الكبرى الأكثر ارتباطاً والأعمق اهتماماً والأشد تفاعلاً مع لبنان تاريخياً وثقافياً وسياسياً وفكرياً روابط من نوع خاص طالما تجاوزت العلاقات العادية والأعراف الديبلوماسية المعمول بها بين الدول، فرفع بمنصبه إلى أبعد بمراحل من غاية من نصَّ عليه واستحدثه لينسج بين الدولتين والشعبين عروة رائدة من التناغم الاجتماعي والسياسي من الصعب أن نجد شخصية أخرى مها بلغ موقعها الديبلوماسي تبزها أو تماثلها، حتى أصبح أكثر العناوين اعتماداً وشيوعاً لكل لبناني وما أكثرهم قصد السفارة الفرنسية لشأن من شؤونه ونافذة ثابتة لكل سياسي أو ديبلوماسي أو باحث فرنسي أراد أن يطل منها على لبنان بحكم مهنته أو موقعه أو لدافع آخر.
عرفت هذا الديبلوماسي اللبق منذ أكثر من ثلاثة عقود ومن خلاله معظم السفراء الفرنسيين المتعاقبين المنتدبين فكنت أرى فيه ممثلاً لفرنسا في لبنان أحياناً ومعتمداً لبنانياً في السفارة الفرنسية أكثر الأحيان. وفي الحالتين كان الكاهن المتدفق حضوراً وحيوية واخلاصاً والمتواري دائماً خلف ستار كثيف من المهنية والاحتراف ولكنه يترك رغماً عنه بصمات لا يلمسها إلا من قصد ذلك وسعى إليه.
إن طبيعة العمل الديبلوماسي كما هو متواتر ومعروف يقضي ولا سيما في الظروف الدقيقة والمفصلية أن يتوارى فارسها عن مقدمة الصورة وصخب الإعلام ومع أن دورها قد يكون مصيرياً وحاسماً يبقى أسير عزلة الأرشيفات وسرية التقارير مهما كانت نتائج جهده وثمرة سعيه مدوية وثاقبة، فيكون غالباً هو الجندي المجهول الذي يصنع مصير الحرب دون أن يكترث باحتفالات النصر وغنائم الظفر.
في لحظات لها ما بعدها في تاريخ لبنان وفي ظل ظروف استثنائية وربما مأساوية أحياناً كان لهذا الموظف النشيط والمتواضع دوراً ريادياً يقوم به فوق ما تسمح له الأعراف والتقاليد والسياسات المعتمدة وحدود منصبه البروتوكولية تؤهله له تجارب طويلة وعريقة وعلاقات شخصية عميقة ومتشعبة اكسبتها الخبرة وطول المراس حكمة عملية ونظراً ثاقباً.
في تلك الأيام القاسية والمحطات المفصلية التي عصفت بلبنان في سنوات الحرب المشؤومة كان بعض السفراء الفرنسيين يرى على رأس مهماته أن يحاول ما أمكنه مواجهة هذه الرياح العاتية التي تعبث بأمن البلد الصغير وتكاد أن تلفح حتى ببنيته وكينونته. فكان لمدير المراسم دائماً لمسات واضحة للعارفين نادراً ما تظهر للعلن وتراها غير العين النافذة البصيرة وحتم لها بطبيعتها وقدرها أن تبقى في حرز حصين خارج أسوار التاريخ والتحليل والدراسة والإعلام.
ألم يكن السفير رينه آلا (سفير فرنسا) الذي شاءت الأقدار أن يمثل دولته في لبنان في فترة من أحلك أيامه وأكثرها التباساً ودقة ومأساوية يشعر في أعماق نفسه كإنسان أن وراء وجوده في لبنان في هذه الفترة العصيبة والصاخبة من مسيرته المتعثرة قوة غامضة اختارته للقيام بدور ما يتجاوز مهمات مهنته وسياسة دولته وأنه أقرب إلى أن يكون رسولاً طوباوياً له دور مرسوم في محاولة التخفيف من معاناة هذا البلد والحد من جموح العواصف التي تتلاعب به والأعاصير التي تتقاذفه وإنها رسالة حياته اختارته لها قوة مبهمة شعر بها ولم يدرك كنهها.
وكان فارسنا صديقه الأقرب ومساعده الأفعل إلى جانبه أحياناً ومتوارياً عن المقدمة دائماً عند اتفاق الطائف واجتياح بعبدا واستضافة الجنرال الرئيس ومشاورات الدول الكبرى والنافذة التي انهارت في الساعات الأخيرة والتي لا تزال تفاصيلها في صدور القليلين من الذين عاشوا هذه اللحظات التي لا تُنسى والتي ربما لن تخرج إلى النور أبداً وظني أن فرنسوا لن يسهب يوماً عن دوره فيها ولا عن كل ما يعرف عن تفاصيلها ومنطلقاتها.
جان مارك سيمون رسول آخر تجاوز مهماته القنصلية ليتصدى باندفاع وحماس لعنف العاصفة فحفظت له الأقدار دوراً غنياً ومتشعباً ومؤثراً بصفته الذاتية والشخصية وتنوع علاقاته من أحداث سياسية وأمنية مفصلية لم تكتب بعد وإن كانت ثمراتها مدوية وحاسمة تركت بصمات لا تهمل على ملفات عديدة ليس أهمها الحوارات اللبنانية اللبنانية والبعد العالمي لازمة الرهائن الأجانب التي شغلت حينها الغرب ردحاً طويلاً من الزمن ولونت سياساته ببصمات لا تخفى. وكان له الدور الريادي في شؤون إنسانية وتاريخية ومصيرية اجتاحت لبنان حينها وبقي جلها في الظل وإن كانت استضافته للمرحوم داني شمعون في الليلة قبل الأخيرة من اغتياله لإبعاده رغماً عنه عن المصير المروع الذي كان يعد له والرسالة التي تلقاها من زوجته التي شاركته الفاجعة تبث له هواجسها وخشيتها وتطلب منه إقناع زوجها بالتحسب لما يمكن أن يتعرض له وتفويت الفرصة على المتربصين. أصبحت معروفة ومتواترة عند بعض المطلعين، وبعد ساعات قليلة كانت الفاجعة التي لا تزال تلف تفاصيلها غيوم سوداء تحجب خلفياتها وأبطالها خلف ستار منسوج من التكتم والتضليل وكان أول الواصلين إلى مسرح المجزرة بعد دقائق من وقوعها جان مارك سيمون وفرنسوا أبي صعب.
لا يمكن لهذه العجالة إلا أن تكتفي بإشارات ولمحات إلى أحداث كبيرة تحتاج لأهميتها وطبيعتها إلى مجال آخر لإبراز حتى عناوينها الكبيرة عاشها فارسنا وشارك فيها وعرف من أسرارها الكثير منذ أن كان السفير برنار ايميه مستشاراً لشؤون الشرق الأوسط في الإليزيه قبل أن يعتمد في لبنان حتى صارت بيروت مع السفير جان بيار لافون (الصديق الشخصي للرئيس شيراك) مركزاً مختاراً لوضع أجندات سياسية إقليمية لا تزال مفاعيلها وأثارها حتى اليوم مرعية ومعتمدة في الدوائر الديبلوماسية المعنية ونسج قاعدة متوافق عليها للنظرة الدولية إلى الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان فيما عرف بتفاهم نيسان وأصر هذا السفير على انهاء مهمته في أيامها الأخيرة بعقد لقاء صحافي على ضفاف العاصي في الهرمل ليلفت نظر المجتمع الدولي إلى الاتفاق الذي أبرم حول اقتسام مياه هذا النهر بين لبنان وسوريا وعن الإجحاف اللاحق بالطرف الأضعف من جرائه قبل أن ينتقل إلى باريس ليصبح بعدها أميناً عاماً لوزارة الخارجية في الوقت الذي كان فيه السفير جان بيار كوسران في الإدارة نفسها يدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قبل أن يعتمد سفيراً لبلاده في لبنان.
فكان فرنسوا مع جميع من عمل معهم ينطبق عليه التوصيف الذي أطلقه السفير لافون في مناسبات كثيرة حتى أصبح شهيراً ومتداولاً (إن فرنسوا أبي صعب منارتي في النور كما في الظلام) .
يتوقع الكثيرون أن يكتب أبي صعب سيرته الذاتية ومن خلالها حكاية نصف قرن من تاريخ لبنان كان فيها الشاهد الصامت والمشارك المتواري على محطات حاسمة وأحداث مهمة بقيت معظم تفاصيلها في صدره وأخال أنها ستبقى تغيَّر فيها اللاعبون وبقي هو الثابت الوحيد.
إنه الجندي المجهول أخلص لفرنسا كما أخلص لوطنه الأم وهو في الحالتين الشخصية الفاعلة المتميزة التي تركت في كل ما ندبت لها الأيام شيئاً منها كما تركت في نفوس من عمل معهم وتعاملوا معه وفي وجدان أصدقائه وزملائه وكل من عرفه شعلة من التقدير والمحبة والإحترام لا تخبو أبداً.
فرنسوا أبي صعب حكاية لبنانية طويلة امتدت على مدى نصف قرن تنوعت فصولها في حقول متشابكة ديبلوماسية واجتماعية وسياسية محلية وخارجية وكانت دائماً تنير أفاقاً شاسعة من الوطنية والتفاني والنجاح في مهنة ربما كانت أشق المهن وأكثرها تنوعاً وازدحاما، كان فيها دائماً كما قال عنه السفير ايميه في حفل وداعه إنه البطل الذي يجهل قدره- Le héros qui s’ignore.
رجل أعمال وكاتب