الرئيسية / أبحاث / أبحاث تاريخية / فؤاد شهاب: الاستثناء

فؤاد شهاب: الاستثناء

المصدر: “النهار” 15 كانون الثاني 2018 | 23:25

نستعيد في #نهار_من_الأرشيف مقالاً كتب في “النهار” بتاريخ 19 أيار 1998، تحت عنوان: “فؤاد شهاب: الاستثناء”.

قيل الكثير في الذكرى الخامسة والعشرين لغياب الراحل الكبير الرئيس فؤاد شهاب. والحق، فإن اقل ما يُوصف به الراحل الكبير، انه باني لبنان الحديث. فهو الذي ارسى دولة المؤسسات ابتداء من اطلاقه برنامج الاصلاح الاداري الذي تجسَّد بانشاء مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي ومصرف لبنان وصندوق الضمان الى ما هنالك من انجازات اخرى، جيء على ذكرها في الاحتفالات والندوات التي اقيمت في منتصف الشهر الفائت. هذا بالاضافة الى نزاهة الراحل الكبير، وتجرّده وحكمته ونظرته الرشيدة والصائبة في ادارة البلاد. وما اودّ التعليق عليه في هذه العجالة، يتمحور حول مسألتين لم يتطرّق اليهما اي من المحاضرين في الندوات السابق ذكرها. الاولى، ان الازمة اللبنانية التي بدأت عام 1975 في عهد الرئيس الراحل سليمان فرنجية تعود شرارتها الاولى الى عام 1968 حين فاز (بمباركة من الرئيس السابق شارل الحلو – ما سُمي بالحلف الثلاثي الذي جمع “الاخوة الاعداء” شمعون والجميل واده في الانتخابات النيابية، والتي ادَّت في شكل او في آخر الى انتخاب الرئيس فرنجية رئيساً للجمهورية. فاركان الحلف الذي كان كل ركن فيه يكن عداوة للآخر، استطاعوا بإثارة الغرائز الشوفينية واحياء الاجواء الطائفية، ايجاد تكتّل نيابي ادّى الى وصول الرئيس فرنجية الى الحكم وهو الذي لم يألُ جهداً في الانقضاض على المشروع الشهابي. المسألة الثانية التي يمكن لحظها، وهي ظاهرة مهمة في النظام السياسي اللبناني، تكمن في ان الانتقال من عهد الى آخر منذ العهد الاستقلالي، (باستثناء عهد واحد) لم يكن انتقالاً روتينياً عادياً، بل رافقه “زخم” كان يمكن توظيفه في بناء الدولة وتخطّي العقبات كلها، لو توافرت النيّة لذلك لدى الرؤساء المعنيين وهذا ما نجح به الراحل الكبير، في الوقت الذي فشل كل نظرائه السابقين. ومن هنا، فالرئيس شهاب، يشكّل علامة فارقة في النظام السياسي اللبناني، وسيظلّ متميّزاً عن جميع الرؤساء، حتى اشعار آخر. نبدأ بالعهد الاستقلالي، لا يختلف اثنان على ان نيل الاستقلال يعدّ مكسباً غالياً، شكّل “زخماً” لا مثيل له لعهد الرئيس بشارة الخوري. وكان من المفترض – باسم الاستقلال ولأجله – ان تُبنى البلاد على دعائم ومرتكزات سليمة تؤسس لبناء الدولة واستمرارها. لكن الذي حصل، كان عكس ذلك، فأقل ما وُصف به عهد الرئيس الخوري هو “الدولة – المزرعة”، اضافة الى الفساد الذي عشش نتيجة ممارسات “السلطان” سليم، شقيق الرئيس الخوري. وكانت النتيجة ان “زخم” الاستقلال ذهب سدى، لا بل كان كبش فداء للممارسات الخاطئة التي طغت على العهد الاستقلالي الاول والذي انتهى باسم القضاء على الفساد. واذ تربّع الرئيس الراحل كميل شمعون على سدة الرئاسة، فالثابت انه فشل في توظيف “الزخم” المعنوي الذي رافق تسلّمه السلطة والذي تجسّد بالالتفاف الشعبي الذي هيّأته الجبهة الوطنية. فالشعارات البرّاقة بالقضاء على الدولة المزرعة لم تخرج الى حيّز التنفيذ نتيجة الحزازات والمصالح الشخصية. يكفي ان عهد الرئيس شمعون انتهى بأحداث 1958 الاليمة، التي لولا حكمة قائد الجيش آنذاك الرئيس فؤاد شهاب، لكانت نتائجها السلبية اشد وطأة. كان من المنتظر من الرئيس السابق شارل الحلو ان يوظّف “الزخم” الكبير الذي تركه الرئيس فؤاد شهاب وان يسعى الى تطويره. لكن الرئيس الحلو، لم يكن اميناً لانجازات سلفه المهمّة، بل كان اسير اللعبة السياسية الضيقة والمصالح الخاصة. رافق تسلّم الرئيس الراحل سليمان فرنجية الحكم عام 1970، ابتهاج عمّ معظم المناطق وكانت الآمال معقودة – بحسب ما ظنّ العباد – على احياء الديموقراطية ودعم مؤسسات الدولة ووضع الامور في نصابها. الا انه ويا للاسف “الزخم” – الحدث – الذي رافق تولّي الرئيس فرنجية الحكم، وُظِّف في شكل جيد جداً بتقليص انجازات العهد الشهابي على مختلف الصعد، حيث ترافق ذلك مع “خلخلة” لاجهزة الدولة وعودة السياسيين التقليديين الى الواجهة السياسية، بدليل ان الحكومة الاولى لعهد الرئيس فرنجية والتي اطلق عليها حكومة “الشباب” لم يستطع معظم وزرائها التكيّف مع نهج الرئيسين فرنجية وسلام. وهكذا استقال كل من غسان تويني واميل بيطار ثم اقيل هنري اده، اما حسن مشرفية فكان طائراً في غير سربه. استقالت الحكومة الاولى، ثم خلفتها حكومة يستطيع اعضاؤها التعايش مع النهج الذي كان قائماً. كيف لا، ومن اعضائها على سبيل المثال لا الحصر، كاظم الخليل، جوزف سكاف، صبري حمادة والمير مجيد ارسلان؟! وتمّ ايضاً تفكيك الجهاز العسكري الذي كان مثابة العين الساهرة على البلاد بالاضافة الى تجريد الادارة من خلال ما سُمّي – “مجمّع بعبدا” – من الحصانات والمكتسبات التي حصلت عليها في العهد الشهابي. ثم ان الممارسات “الديموقراطية”، ايام الرئيس فرنجية، كانت غاية في “الابتكار”. ومن سخرية القدر ان تدفع “النهار” ثمناً لذلك، وهي التي ساهمت في مجيء الرئيس فرنجية الى الحكم. أوَلم يوعز الى الامن العام آنذاك بالاتصال بشركات الاعلان لمنعها من نشر اعلاناتها في “النهار”… وكان من نتيجة ذلك، ان اختفت الاعلانات من الصحيفة… باختصار شديد كان يمكن الزخم والتأييد الكبيرين اللذين رافقا تسلّم الرئيس فرنجية سلطاته ان يوظّفا في وضع الامور في نصابها، الا ان شيئاً من ذلك لم يحدث. اما “الزخم” المعنوي الذي رافق تولّي الرئيس الراحل الياس سركيس سلطاته الدستورية. فلقد تجلّى عبر تأييد عربي، من خلال اتفاق الرياض عام 1978، واستقرار امني في بدايات عهده، لكن الثابت ان هذا الزخم تعثّر او بالاحرى فقد مضمونه نتيجة تسلّط المليشيات المحلية وارتباطها بالخارج ما اضعف سلطة الدولة، فلم يستطع الرئيس سركيس ان يمضي قدماً في عملية التطوير المطلوبة. واذ تولّى الرئيس السابق امين الجميل بعد مقتل شقيقه الرئيس بشير فإنه من الجدير بالذكر ان نشير الى ذلك الاجماع النيابي وحتى الشعبي(؟!) الذي تجسّد بانتخابه رئيساً للجمهورية وذلك بغالبية نيابية في ثكنة الفياضية. ذلك الاجماع شكّل، ولا شك، “زخماً” وافراً، ثبت ويا للاسف،، انه لم يُوظّف لا على المستوى السياسي لانهاء الازمة اللبنانية معها، ولا على صعيد لجم الفساد والممارسات الخاطئة!!! اما الرئيس الهراوي، مع انه حتى الساعة لا يعدّ من الرؤساء السابقين، فالسؤال لا يزال مطروحاً عما اذا كان بالفعل استطاع ان يحقّق مكتسبات نتيجة “الزخم” الذي رافق الحكم، والذي تجسّد عبر محورين: اتفاق الطائف وتولّي الرئيس رفيق الحريري رئاسة الوزارة لمدة تزيد عن الخمس سنوات. استعرضنا كل العهود السابقة واستثنينا عهد الراحل الكبير الرئيس فؤاد شهاب. والحق انه هو الاستثناء بين كل الرؤساء السابقين. ف “الزخم” الذي رافق عهده بناء على الاجماع الوطني الذي تُرجم بانتخابه رئيساً للجمهورية، إثر احداث عام 1958 وُظِّف لمصلحة البلاد والعباد نتيجة تصميم جلي وواضح لبناء دولة الاستقلال بعد نيلنا استقلال الدولة بحسب قول الراحل الكبير. من هنا دوره المميز والمتميّز في بناء دولة المؤسسات والتي اشير اليها في الندوات السابقة في الذكرى الخامسة والعشرين لغيابه. ومن شبه المؤكّد انه لو قدر للانجازات الشهابية ان تنمو وتتطوّر لما وصلت بنا الحال الى ما وصلنا اليه. ولعلّ ابلغ شهادة هي شهادة الخصم. يقول الوزير الراحل كاظم الخليل “كان كل مدة ولايته في قيادة الجيش ورئاسة البلاد نظيف الكف لم تغره المادة ولم يجمع منها غير ما هو في حاجة اليه. عاش فقيراً وعزيز النفس موفور الكرامة ومات كذلك. ويضيف “تسلّم الحكم وفي رأسه هدفان رئيسان: اعادة الامارة الشهابية(؟!) واصلاح اجهزة الدولة ومحاربة الفساد والحد من نفوذ النواب والزعماء الممتد الى كل دوائر الدولة” (مذكرات كاظم الخليل، “النهار”، 30/4/1990). في جلسة خاصة، روى لنا احد كبار المسؤولين، الذي رافق العهود كلها منذ عام 1960، ان الراحل الكبير التفت اثر خروجه من القصر الرئاسي، بُعيد انتخاب الرئيس شارل الحلو خلفاً له، الى تمثال صغير للسيدة العذراء وقال: “يا عدرا، متل ما دخلت، متل ما خرجت!!”. في الذكرى الخامسة والعشرين لغياب الرئيس الامير، نتذكّر الرئيس شهاب باعجاب وتقدير. والحق، اننا نتذكّره كل يوم… ونتحسّر!!!

اضف رد