الرئيسية / home slide / غسان كنفاني… ذاكرة فلسطين واسطورتها

غسان كنفاني… ذاكرة فلسطين واسطورتها

 رقية العلمي 
القدس العربي
09072020

■ بعد ثمانية وأربعين عاماً من اغتيال غسان كنفاني لم يطمس اسمه، بل ما زال يومض في ذاكرة الشعوب، اغتيال لم يحقق الهدف الذي كان مقصوداً: إنهاء فكره النضالي وإسكات قلمه إلى الأبد، بل على العكس كان إنهاء حياته الدافع الأكبر لنشر أدبه والتفات العالم لكتاباته وللقضية الفلسطينية.
إنه اليوم التاسع من نيسان/إبريل عام 1936، يوم ميلاد غسان كنفاني في عكا، المدينة البحر متوسطية التي عاش فيها حتى عام 1948، حاله حال الفلسطينيين آنذاك أُجبر على الخروج مع عائلته سيراً على الأقدام، حتى وصلوا إلى سوريا. من هناك انطلقت رحلة الهجرة فمضى متنقلاً بين سوريا ولبنان والكويت، ليستقر فيه المعيش في بيروت منذ 1960 وحتى يوم وفاته في الثامن من تموز/يوليو 1972.

أصل الحكاية:

كانت هناك عدة فواصل في حياة كنفاني دفعته لحب الأدب والكتابة، وتحديداً تركيز كتاباته حول القضية الفلسطينية، ومعاناة الشعب الفلسطيني، ففي طفولته سيلزم السرير بعد كسر قدمه، فيكثر من القراءة وينهل الأدب من الكتب التي كانت في مكتبة العائلة.
أما المفصل الذي يُعد الرئيس في مرحلة حياته، فهو مذبحة دير ياسين التي وقعت في 9 إبريل 1948، وهو يوم ميلاده الثاني عشر، على أثرها قرر عدم الاحتفال بعيد ميلاده كونه يتزامن وذكرى المذبحة.
في يافا التحق بمدرسة الفرير وتعلم اللغة الإنكليزية والفرنسية. من هذه النقطة ستتبلور رغبته في حب الأدب، نقطة ستدخله إلى المفصل الثاني، حيث خالف رغبة والده المحامي للعمل في التجارة، وآثر الاتجاه إلى عالم الأدب، حصل على إجازة في اللغة العربية في جامعة دمشق، فكان لدراسته الأدب تأثير كبير في نتاجاته اللاحقة.
أما المفصل الثالث فكان عمله معلما في مدارس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا) في دمشق، ما جعله أقرب لمعاناة الطفل الفلسطيني اللاجئ في المخيمات. كل هذه الأحداث ستغير مفاهيمه، وتزيد من ارتباطه بشعبه فيكرس الأدب والعمل السياسي للقضية.

لقائه مع آني هوفر

« أنا مريض سكري، فقير لا مال عندي، ولا هوية، وأعمل في السياسة وحياتي ليست آمنة!». هذا عرض الزواج الذي قدمه غسان كنفاني للدنماركية آني هوفر؛ وقصة لقائهما معروفة، فعندما جاءت آني مع وفد من الشباب الدنماركي لبيروت ودمشق، لمساندة اللاجئين في المخيمات. أقتُرح عليها في بيروت مقابلة غسان كنفاني كونه مرجعا للقضية الفلسطينية، والمطلع عن قُرب على أوضاع اللاجئين في المخيمات، فيتم ترتيب لقاء لها للتحدث مع الصحافي الشاب غسان كنفاني؛ فخانها التعبير لما قالت له: «أريد أن أتفرج على اللاجئين في المخيم!».
فرد عليها: «شعبي ليس جنينة حيوانات حتى تتفرجي عليه».
في عام 1961 تزوج كنفاني آني هوفر التي أصبحت في ما بعد معروفة باسم آني كنفاني وأنجبا طفلين هما فايز وليلى.

لميس نجم والخال كنفاني:

وصلت لميس نجم ابنه أخته الكبرى فايزة من الكويت إلى بيروت ذات الليلة، حتى إذا ما أصبح الصبح نزلت مع خالها وركبا السيارة، بينما آني تلوح لهما من شرفة الشقة. وكانت آني الشاهد الأول على انفجار سيارة زوجها الملغمة، ما أدى لاستشهاد غسان كنفاني (1936- 1972) ولميس نجم (1955-1972) في الثانية ذاتها.
هذه الحادثة المروعة تركت أخته فايزة وزوجها حسين نجم والدي لميس في حزن عميق، لم تمحه السنوات، برحيل الأخ والابنة واغتيالهما بهذه الطريقة الغادرة.
آني كنفاني، وبعد موته هو ولميس أمام عينيها، سخّرت حياتها لخدمة القضية الفلسطينية ومن أجل أطفال المخيمات، فقامت على تأسيس مؤسسة غسان كنفاني الخيرية، ورياض أطفال لتعليم الطفل الفلسطيني. كما اهتمت بنشر أعماله وأدبه وعملت على اعتبار لميس رمزا للطفولة الفلسطينية، بل رمزا للطفولة العالمية ضحايا الصراعات السياسية. وبهذا نجحت في تحليق الأدب الفلسطيني: أدب المقاومة إلى العالمية، من خلال حراكها لترجمة أعمال كنفاني إلى مئات اللغات. ولا جديد في الإشارة إلى الهدية التي كان يقدمها سنوياً كنفاني إلى لميس وهي، كتيب صغير فيه رسوماته، وهي نصوص بخط يده موجهة للطفل الفلسطيني من خلال لميس.
وفي السياق حول المخطوطات والرسائل إلى لميس، لا بد من الإشارة إلى قصة «القنديل الصغير»، وهو أول عمل موجه للأطفال بقلمه وريشته وتبويب العمل بالإهداء الأكثر شهرة في عالم الكتابة للطفل: «كي أحافظ على وعدي لكٍ وهديتي إليكِ قررت أن أكتب لكِ قصة… اسمها القنديل الصغير. تكبر معك كلما كبرتِ». لكن للأسف لم يمهلهم القدر مطولاً فقد رحلا ليبقى «القنديل الصغير»، وكل حكايا غسان كنفاني للطفل وكتاباته جُل كتاباته لم تزل تكبر على مرّ الأجيال، متناقلة كلماتها في الكفاح والنضال والقهر الفلسطيني، جراء النكبة تجسد شخصياتها قامات ما زالت حية في الذاكرة: مثل «أم سعد، وهذا العائد إلى حيفا، وكما في بيارات البرتقال الحزين» قصص تتضمن معاناة التهجير والهجرة وحلم العودة والقدر الفلسطيني. وفي قصة «لؤلؤة على الطريق» من مجموعته القصصية «موت سرير رقم 12»، التي تتناول سيرة الفلسطيني في الشتات الباحث عن العمل: «فهذا سعد الدين يلحق بصديقه إلى دولة خليجية بغرض العمل، ولما لم يتمكن من الحصول على وظيفة وينفق ماله، يعطيه حسن ثمن تذكرة العودة إلى بلاده، وعندما كانا يمشيان معا باتجاه مكتب السفر رأى سعد الدين بائع محار، فقرر أن يشتري بثمن تذكرة العودة محاراً إيماناً منه بأنه سيجد لؤلؤة ما في كومة المحار…
خلاصة القول في ذكرى اغتياله، سيبقى غسان كنفاني حياً ما خَفَت بريق أعماله يوماً ولا كُتم صوته، بل على العكس هو بوصلة الأدب الفلسطيني، رغم رحيله المُبكر يترك إرثاً لا يستهان به، أكثر من ثمانية عشر كتاباً من قصص وروايات ومنشورات في الشعر والمسرح، غير المقالات السياسية في الصحف، ليكون هذا الرمز الفلسطيني أسطورة في الحياة كما في طريقة مماته.
غسان كنفاني هو الرجال في الشمس: ومن ذا الذي لم يقرع الجدران؟ لكن الذاكرة الفلسطينية الحية تقرع الجدران كل يوم، لأن هذا كل ما تبقى لنا وهو بالمناسبة كثير.

٭ كاتبة فلسطينية