شربل نجار
25012017هنا لبنان
لصدور هذا المقال قصة .فقد كتب الصديق أنطوان دويهي(1) مقالة علمية رائعة بهدف تنبيه الدولة والمجتمع المدني الى الأخطار التي تحدق ” بالقرنة السوداء ” وهي منشورة اليوم الأربعاء 25 كانون الثاني في جريدة النهار وقد نقلها “موقع هنا لبنان” في باب مقالات
انطلاقا من تلك المقالة خطر لي ان أوظّف اسلوب وبنية مقالة أنطوان للحديث عما يعتري المتين من مصائب وعثرات في جردها خاصة وجرد صنين بشكل عام.
.وفي ذلك تأكيد إضافي على أن مصائب لبنان هي نفسها على امتداد مساحاته وعلى حساب أبنائه
(1)كاتب ومفكر لبناني، دكتور في الأنتروبولوجيا الثقافية.
أثارَ تلوث ينابيع مياه الشفة ، الذي ظهر إلى العلن مؤخرا على سفوح جرد المتين بما فيه منطقة الزعرور (1800م)، قدراً واسعاً من الردود الشاجبة. والحق يقال إن هذا التلوث، الذي أكدته مختبرات الضبية والفنار والجامعة الأميركيّة ، لم يأخذه اصحاب الحل والربط والمسؤولون البلديون على محمل الجد وهو أي التلوث على قدر كبير من الفجاجة والإزدراء بالناس بحيث يصعب اتخاذه تماما على محمل الجد.
التلوث يضرب نبعين تشرب منهما بلدة المتين كما يهدّد ثالثا على علو 1700م عن سطح البحر. وهي ينابيع “بقليع” “السد” وعين السكر التي تجاور مشروع الزعور القائم منذ سبعينيات القرن العشرين في تلك المنطقة بالذات التي كانت تعيش على الزراعة والرعي والتي لم يصل اليها غربان المال إلا لاحتياج الرهبنة اللبنانية للمال لتنظيم أمور الحرب عام 1975 فباعت قسما من اراضيها على ان ينشىء الشاري (ميشال وغبريال المر) مشروعا إنمائيا وقد انشىء ذلك المشروع قبل الحرب بقليل
ديناميكية الخراب
ليس هذا المشروع بحد ذاته هو بيت القصيد بل هو جزء من ديناميكية شملت شق طرقات وفرزها وبيعها لخدمة المشروع فإذا بها تستهدف الطبيعة، والمشهد، والحياة البرية و النباتية والحيوانية، والثروة المائية الجوفية في جرد المتين.
وليس هذا المشروع هو بيت القصيد بل تداعياته العقارية المحتومة على كامل الجرد من جهاته الثلاثة المتين ، بتغرين وبسكنتا . هكذا شُرّع كامل الجرد أمام الوسطاء والسماسرة والمستثمرين من جهتي المتين وبتغرين على أساس الشعار الآتي: “لماذا هم وليس نحن؟ هل نترك له وحده استغلال الجرد العالي؟”، فيعمّ الخراب. والحقيقة أنه ليس هناك “نحن” و”هم” في هذا المجال، بل طرف واحد في الجهات الثلاث: الرأسمال الأعمى!
وللدلالة على ديناميكيّة الخراب بالواقع الملموس المخطط له كتب الطبيب غابي ابو سليمان وهو عضو سابق في بلديّة المتين كتب ليؤكد فنون التملص من القوانين و القرارات فقال:
“إن مياهنا الْيَوْمَ ملوثة بالجراثيم التي تسبب لنا أمراضاً آنية ويمكن معالجتها، ولكن الأخطر من ذلك هو بداية التلوث الكيميائي الذي أشار اليه الخبير في تقريره (Ammonia) ، ولو بنسبة ضئيلة. فالتلوث الكيميائي ليس له مضاعفات آنية بل يسبب أضراراً جسيمة ويشكل خطراً علي الصحة العامة على المدى الطويل وليس له من علاج، ويمكن أن ينتقل عبر الأجيال..
……
وفِي النهاية أختم بما هو أهم من كل ذلك وهو أن يقوم المجلس البلدي بإعادة النظر في المخطط التوجيهي لمنطقة الينابيع وأعادة نسبة البناء الى ما كانت عليه في البداية ، أي كما أصدره التنظيم المدني قبل تعديله مرتين من قبل المجلس البلدي عام ٢٠٠٩، أي إعادة نسبة البناء ألى صفر بالمائة كما نصحنا به يومها اصحاب الخبرة والاختصاص في التنظيم المدني..
ولكن للأسف الشديد ، ولأسباب لم أعرفها يومها ، وبعد أن كان جميع أعضاء المجلس البلدي يومها قد وقعوا ذلك المخطط عادوا ،و نزولاً عند رغبة رئيس البلدية ، وتراجعوا عن تواقيعهم ضاربين بعرض الحائط آراء الخبراء والاختصاصيين وقرروا خلافاً لهذه الأراء العلمية القيمة، رفع نسبة البناء من صفر الى خمسة بالمائة ، رغم اعتراضي يومها.
أما الأغرب من هذا كله أن المجلس ذاته بأعضائه نفسهم أعاد الكرة للمرة الثانية وفِي فترة لا تتعدى الشهرين فقط، فتراجع أعضاؤه مرة ثانية عن تواقيعم ولذات السبب ، ورفعوا نسبة البناء مرة أخرى من خمسة بالمائة الى عشرين بالمائة ، وفي هذه المرة كنت العضو الوحيد الذي رفع صوته معترضاً وتقدم بشكوى الى وزارة الطاقة بهذا الشأن محاولاً تغيير هذا الإجراء ، ولا نزال منذ ذلك التاريخ نعاني تبعات هذا الخطأ الجسيم. وليست مسألة التلوث سوى نتيجة من نتائجه المدمرة على بيئة البلدة وسلامة مياهها وصحة أهاليها.”
وأنني أدعو الْيَوْمَ رئيس البلدية والاعضاء وأناشدهم وأقول لهم أنه ، وكما فعل المجلس البلدي سابقاً وغَّير المخطط التوجيهي مرتين من صفر الى خمسة ثم إلى عشرين بالمائة ، خلافاً لرأي اصحاب الخبرة ، أدعوه لإعادة نسبة البناء الى صفر بالمائة وفقاً لاراء أهل الاختصاص وهو أمر قانوني يمكن فعله لانه سبق أن أعتمد سيما وأن الكارثة قد حلت وطال الضرر جميع أبناء المتين.”
إن هذا الموضوع لا يمكن التغاضي عنه للأسباب التالية:
لأن، أولاً، ما لا يمكن تصور حدوثه في أيّ بلد، يمكن أن يحدث في لبنان، حيث الفساد المريع وضعف مؤسسات الدولة والفوضى العارمة في كل مجال، تتيح القفز فوق كل الاعتبارات، وتخطي كل المعايير والقيم، لتحقيق المزيد من الكسب المادي، وخصوصاً في موضوع التعدّي على الطبيعة.
ولأن، ثانياً، الكثير من الوسطاء الماليين اللبنانيين هم على استعداد لفعل أيّ شيء، ولاستباحة كل شيء، من أجل جذب الرساميل التي تؤمّن لهم الحصص والعمولات، ضاربين عرض الحائط بكل المحرّمات. فكيف لا يسوّقون “سفوح صنين” ويسعون إلى استثمارها وبيعها؟
ثمّ هناك الكثير من أصحاب الثراء الفاحش في العالم الأقرب والأبعد، الذين يقودهم جنون العظمة، وحبّ التميُّز الفارغ، إلى الرغبة في شراء أراضٍ فوق سطح القمر، فلماذا لا يلوّح لهم الوسطاء والسماسرة بحلم امتلاك منزل على “مشارف صنين”؟
الكارثة اللبنانية
ثمّ إن لبنان، الرازح تحت حروبه وأزماته المتوالية، المثقل بكثافته السكانية وفيض اللاجئين إليه، بُلي منذ أكثر من نصف قرن، في زمن الإسمنت المسلّح وتوابعه، بأخطر ما يمكن أن تُبلى به بلاد: أن تتوافر فيها القدرات المالية، أن يتوافر فيها الرأسمال، قبل أن تصل إليها الثقافة، ثقافة البناء وثقافة المشهد وثقافة البيئة. حينئذ تحل الكارثة.
وقد حلّت هذه الكارثة في المدى اللبناني. زاد من هول كارثة البناء في لبنان طوال نصف القرن الأخير، أن القدرات المالية حضرت، ليس في غياب الثقافة فحسب، بل أيضاً في غياب سلطة الدولة، وسط فساد بلا حدود. غياب الثقافة وغياب الدولة.
هكذا، زحف البناء الفوضوي، الهجين، غير المندرج في أيّ رؤية، في أيّ تخطيط مسبق للمكان، سواء أكان المكان مدينة، أم شارعاً، أم قرية، أم ضاحية مدينة، أم شاطئ بحر، أم ضفة نهر، أم أيّ شيء. البناء الخالي من كلّ جمالية، من كلّ طراز معماري، من كلّ ذوق، زحف واحتل كلّ أنحاء لبنان، مشوّهاً المشهد إلى غير رجعة، وملوّثاً الطبيعة تلويثاً خطيراً في عناصرها كافة.
هكذا، امتدّت الكارثة المعمارية، التي لا عودة عنها، في طول لبنان وعرضه، مغطيّةً الشواطئ، والمدن الساحلية، والمناطق الوسطى، والمناطق الداخلية، والمناطق الجبلية ايضاً. والآن، تحوم غربان المال فوق أعالي الجبال، وصولاً إلى “القرنة السوداء”.
هكذا يمكن القول إنه ليس من مكان في العالم مثل لبنان، يبرز فيه هذا التناقض المأسوي بين جمال الطبيعة من جهة، وبشاعة الفعل البشري، من جهة أخرى. لقد بدّد الإنسان المعاصر ثروة لبنان الكبرى: جماله الطبيعي وصحّة بيئته. كان عمار لبنان هو خرابه. يشنق نفسه ألفونس دو لامرتين، إن عاد ورأى لبنان الذي وصفه في كتابه “رحلة إلى الشرق”.
غربان “ “صنّين””
في موضوع غربان المال الحائمة حول “صنين” بالذات، لا يمكننا إهمال اي مشروع يقام في جرد المتين وحوله وصولا الى “صنين” الذي يحفتر الغربان إياهم حوله وحواليه. منذ ربع قرن وأكثر ، تتوالى المشاريع نفسها، بصيغها العقارية المختلفة، من هذه الجهة أو تلك من سفوح “صنين”. وقد تكوّنت منذ أكثر من ربع قرن إلى الآن، مجموعة من الوسطاء والسماسرة والمستثمرين، الذين يجهدون في التقرّب من الزعامات السياسية في “المتن”، ويتمسّكون بمجالسها البلدية المتعاقبة، بهدف واحد، متعدد المسالك والوجوه: الصعود إلى الجرد وتنفيذ المشاريع العقارية على هذا السفح أو ذاك من سفوح “صنين”. ومنطق الاستثمار والبيع والشراء هو الآتي: “نضع يدنا مجّاناً على مشاعات شاسعة في الجرد العالي، نحور وندور و”نشيل ونحطّ” بلفاً وتزويراً على “الطريقة اللبنانية”، نذرّ الرماد في العيون بالكلام على التزلج وعلى المصاعد، ثمّ ننشئ بنى تحتية، نبني فوقها أو لا نبني، ونبيع الأراضي المعدّة للعمار، او الأبنية التي سنشيّدها، بأبهظ الأثمان. اما الخراب العظيم الذي سينتج من أفعالنا، فنغطّيه بالوظائف وفرص العمل التي نقول إننا سنوفّرها، وبالحديث عن ارتفاع أسعار الأراضي الذي سيلي ذلك”. وتملك الهيئات المهتمّة بمواجهة هذه المشاريع ملفات ووثائق كثيرة عنها.”.
الحلّ الواحد الأوحد
ليس هناك، لتجنّب الخراب الكبير إلاّ حلاّ واحدا” أوحدا”: المطالبة بإنشاء محمية طبيعية ومائية باسم “محميّة صنين والجوار”، وذلك لمنع الرساميل المتأهّبة دائما للصعود الى الجرد لخرابه. هذه الرساميل، التي فعلت ما فعلته في الشاطئ اللبناني، والمناطق الساحلية، والوسطى، والجبلية، باتت وجهتها الآن الجرد العالي أيضاً ، خزّان مياه لبنان الأهمّ، بتربته البالغة الحساسية والهشاشة وقابلية الامتصاص، التي لا تحتمل أدنى خلل، فكيف ستحتمل مثل هذه المشاريع؟
إن “جرد المتين – صنين” بمشهدياته الجمالية الفاتنة، وواحاته البالغة الغنى بثرواتها النباتية والحيوانية عرضة للدمار الشامل فحذار!!