
حسن داوود
Mar 15, 2018

تلك ربما كانت آخر الرسائل. وهي على أي حال لن تصل إلى المُرسلة إليهم. ستقع بين أيدي آخرين يعثرون عليها متروكة على مقعد الطائرة، أو في خزانة البار أو عند موظف الاستقبال في فندق، ثم أنها بلا عناوين، فقط «إلى أبي» أو «إلى أخي» أو «أمي الحبيبة»، أو «إلى عزيزتي … بما أنه هكذا يجب أن تبدأ الرسائل». ثم ألا عناوين أيضا تشير إلى مكان المُرسِل. ذاك أن هذا الأخير لن يظلّ ماكثا في المكان الذي كتب رسالته فيه. هو في غرفة فندق، أو في شقة مفروشة رخيصة للإيجار سيسرع إلى مغادرتها، وأحيانا هي غرفة موقتة لموعد واحد لن يلبيه الآخر المنتَظَر، أو هو في المطار ينتظر إقلاع الطائرة.
دائما في ذاك الحدّ المكاني الذي سيزول، تُكتب تلك الرسائل «ناقصة، بلا خاتمة، وتدعو إلى القلق على كاتبها». ذاك أن ما سيكتبه هو غالبا رسالة وداع، أقصد وداعا أخيرا، إذ أن الرسائل المكتوبة هي تصفية حساب تأتي بعد رحيل أوّل طال أمد الغياب فيه. رسائل وداع، إبلاغ بالرحيل النهائي، بأن صفحة الأم والأب والأخ وكذلك صفحة الحبيب قد طُويت إلى الأبد، أو بسبب أن اللقاء بين الحبيبين، في غرفة الفندق، لم يعد حاجة لهما طالما أن زمنا كثيرا انقضى على انقطاع ما كان بينهما. وقد تغيّر كلاهما، ليس بسبب النسيان فقط، لكن أيضا لأن كلا منهما لم يعد هو، أو لم تعد هي: «فالسنون التي تفصلنا عديدة، إلى درجة أنك لن تحتاج إلى النظارة لترى أني أصبحت أقصرَ» بسبب آلام الظهر إياها، وتراصّ الفقرات، تقول في الرسالة. ثم تكتب له أن العمر يقرّبها من هيئة الرجال، من هيئة أبيها حيث «صرت أسمع نحنحته حين أتنحنح، وأرى شفتيّ تميلان قليلا إلى يسار وجهي، مثله. حتى طريقة تمدّدي في السرير ونومي أو حتى شكل أصابع قدميّ».
وهم، كاتبو الرسائل، ليسوا في بلد واحد، بل على الأرجح هم ليسوا في بلد، أي بلد. لا تعيّن الحكايات اسما، إذ تكتفي بما يمكن تعيين مكانه بأنه الـ«هناك، في مقابل الـ«هنا» الواسعة هي أيضا التي تجمع بلدانا كثيرة، هي البلدان التي يهرب منها الناس، سواء كانوا فارّين أو مطاردين أو منضمّين إلى من تحملهم المراكب لتلقي بهم، إما في البحر، وإما على شواطئ الـ»هناك». وهم لن يكونوا مجرّد ضحايا، كما قد نظن، فحكايات بعضهم هي من صنع أقدارهم الخاصة. ربما لم يكن أحدهم، أو إحداهنّ ليشعرا بأنهما مراقبان لولا أنهما هاربان من تاريخ لم تجرِ تصفيته بعد. هي تقول: رجل يراقبني من وراء الستارة. هو هناك دائما، كأنه يعرف لحظة ظهوري على النافذة فيسبقني إلى نافذته، فأجده واقفا وراء ستائرها.
وهم، كاتبو الرسائل، يراقبون أيضا: «أجد أحيانا الغرفة مضاءة (…) وأراقب أحيانا الستارة بحثا عن ظل امرأة من عشيقاته الكثيرات. كان دافعي العميق الاقتصاص منه، الانتقام». وهم، إلى ذلك، لا يبقون في الصورة التي رُسمت لهم كأبرياء فارّين من جحيم الفقر والقهر والحروب. أحدهم قتل المرأة التي أشفقت على حاله جائعا لا مكان يذهب إليه أو يبيت فيه. قتلها وسرق ما يمكن الهرب به من بيتها. هذه واحدة من حكايات الكتاب، حكاية جرى استكمال فصولها، أو متابعة مصير أطرافها المشاركين فيها، أي أن الحكاية، أي حكاية، ينبغي، بحسب هدى بركات، ألا تنتهي عند الخير المفترض دوامُه بين مَن يأوي ومن في حاجة إلى مأوى. ذلك جزء من الحكاية التي، إن استكملت، ستذهب في مسارات معاكسة ينقلب بها العالم البسيط إلى شرّ خالص.
تبحث هدى بركات عن الأجزاء اللاحقة من كل حكاية، رافضة أن تقف عند ختامها الأول. هي تُخرج العالم من عقل الـ»فايري تايل» ومشاعرها إلى الكره أو الإثم اللذين سيتكشّفان في الأجزاء اللاحقة، تلك التي لم تُكتب. أبطالها، كتاب الرسائل، مصنوعون من ذلك الوعي، وعي الأجزاء اللاحقة من الحكايات، أي من الشكّ في أن تبقى الصفة الأولى ملازمة لمن تُطلق عليه، أو من اليقين أن مشاعرهم لن تظل سائرة في اتجاهها الواحد، أو إن كانوا يعرفون من أي فضائل أو عيوب هم مصنوعون. هي رسائل كتبت لكن لن تصل لمن كتبت لهم. ستبقى حيث هي، حيث كُتبت، أو ربما ستقع بين أيدي آخرين يبدأون منها بدورهم كتابة رسائلهم، أو كتابة حيواتهم. ربما كان هذا أفضل، حيث أن الرسائل تتوقّف إن وصلت إلى المرسلةِ إليهم، أو تموت إذ تتحوّل الاعترافات التي تحتويها إلى إجابات لا تنهي التساؤلات فقط، بل تنهي وجود الذي هو هنا ووجود الذي هو هناك.
«بريد الليل» رواية لهدى بركات صدرت عن دار الآداب في 126 صفحة ـ 2018.
٭ روائي لبناني