في ظل هذه الأسئلة تعامل المثقفون العرب مع إشكال التاريخ، الليبرالي كما الإصلاحي، الأصولي كما الحداثي، التراثي كما التغريبي، فتشوا جميعاً في التاريخ عن أسانيد لإيديولوجياتهم أو هم توسلوا إلغاءه ليستقيم خطابهم السياسي وتثبت تصوراتهم الإيديولوجية.
في هذا الإطار بالذات رأى الإصلاحيون العرب إلى النهضة العربية من الطهطاوي إلى الكواكبي ورضا مروراً بعبده والأفغاني. فوراء خطابهم الإحيائي كمنت دائماً رؤية للتاريخ ألفته منجزاً تاماً مثالياً في ماض أضفيت عليه القداسة، في استعادته والتواصل معه كل أسباب النهوض والتقدم، وفي الابتعاد عنه أصل الخلل والتراجع والبلاء. وهكذا اختزل التاريخ في الثقافة، واختزلت الثقافة في الدين، واختزل الدين في نصوصه. وبات التقدم والنهضة رهناً بالالتزام بالنص الثابت الحاوي لكل الحقائق والأحجام في الوقت نفسه عن الإلمام بالزمانية على نحو تترتب عليه نتائج، الأمر الذي سهل على دعاة الأصالة تأسيس الحداثة في التراث، فالديموقراطية في عرفهم هي الشورى، وعقلانية الغرب هي عقلانية المعتزلة، وقيم المجتمع المدني وأعرافه هي من صميم الحضارة العربية الإسلامية.
في المقابل رأى الليبراليون العرب التاريخ مكتملاً ناجزاً في حضارة الغرب، ما حدا بسلامة موسى وطه حسين إلى حث العرب على التثقف بثقافة الغربيين والتخلّق بأخلاقهم.
ثمة إشكال كبير إذاً تترجمه هذه التوجهات المتناقضة عند المثقفين العرب أساسه التعامل مع التاريخ بفكر لاتاريخي. هؤلاء جميعاً تعاملوا مع أسئلة القرن العشرين ويتعاملون مع أسئلة بدايات هذا القرن بأفكار وأطروحات فائتة لا تتلاءم مع معنى الزمن وحركة التطور، في حين أن المطلوب الانتقال من الرؤية السائدة، التقليدية أو الإصلاحية على السواء، إلى رؤية تجديدية تأخذ بالزمانية في الاعتبار، وترى إلى النص المؤسس رؤية منفتحة على التحليل التاريخي والحسم في المسألة الدينية، وهو حسم لا يتحصل، وفق عزيز العظمة، في «إصلاح المجال الديني» إلا من طريق تبين تاريخية النص المؤسس والوعي بطابعه الزمني من خلال تفكيك المضمون الأسطوري للتراث الديني، ما يسد المدخل الذي دلف منه المنظور السلفي إلى مساحات واسعة من الخطاب العربي المعاصر. مثل هذا الأمر يحتاج إلى عملية خلخلة جذرية طالما دعا إليها المفكر الراحل محمد أركون حين طفق يبحث في هوامش العقل الإسلامي ومنسياته اللامفكر فيها.
وقد برزت هذه القراءة التاريخية للمقدس كإحدى السمات الإيديولوجية للفكر العربي المعاصر في وجهه العقلاني التجديدي، حيث رأى محمد حمزة في «إسلام المجددين» أن خطاب التجديد يتجه بنقده إلى الذهنية الدوغمائية التقليدية بكثير من الإيمان بحق الفرد في تفكيك مرتكزاتها ومسلماتها، وبتسليط منهج «النقد التاريخي» على التراث ما يفضي في النهاية إلى التخلي عن مبدأ النص الثابت، والتعامل معه بوصفه منتجاً ثقافياً تاريخياً قابلاً للمراجعة والمساءلة.
ودعا هاشم صالح إلى القطع مع الماضي وإلى المواجهة الحاسمة مع العقيدية المتحجرة التي كفرت الفلاسفة والعلماء والمفكرين الأحرار، والتي تزعم أنها تمثل الإيمان المستقيم، وقد آن الأوان لكشف النقاب عنها لمعرفة كيف تشكلت تاريخياً لأول مرة وكيف انتصرت على التيار العقلاني في أرض الإسلام.
من هذا المنظور بالذات، وفي رؤية متجددة في التعامل مع إشكالية التاريخ، ذهب علي حرب في «الجهاد وآخرته» إلى أن المجتمعات العربية لن تنجح في الخروج من هامشيتها ما دامت تعتبر الماضي نموذجاً لكل تطور أو تقدم، وأنها لن تمارس حيويتها الوجودية ما لم يستخدم الفرد عقله بصورة حية وخلاّقة، بكسر الوصاية عليه من أية سلطة أتت، ومن غير أن يستعبده اسم أو أصل أو نموذج.
مقابل هذاالتعامل الإشكالي المتجدد مع «التاريخ» نطرح رؤية أخرى تخرج عن الأنساق السائدة، رؤية إبداعية ترتكز على الإسهام في صنع التاريخ والمشاركة في توجهاته وإنجازاته، بما يخرجنا من دائرة رد الفعل والاستتباع إلى الفعل، لنقرأ التاريخ وموقعنا فيه كفاعلين، ومن مظور مختلف وجديد.
* كاتب لبناني.