
نساء في الضاحية الجنوبية في بيروت
محمد تركي الربيعو
القدس العربي
03072021
بدءا من فترة التسعينيات، كان حزب الله اللبناني، يتحول مع مرور الأيام من حزب أو مجموعة مقاومة مسلحة، إلى ظاهرة اجتماعية في بيروت وباقي المدن اللبنانية. وقد حاول عدد من الباحثين اللبنانيين والغربيين دراسة هذا الصعود، كمدخل لفهم الإسلام (التشيع الجديد) والحرب والحداثة وغيرها من الأسئلة المتعلقة بالواقع اليومي.
وربما كان كتاب السوسيولوجي اللبناني وضاح شرارة في هذا السياق (1996) «دولة حزب الله» واحدا من أهم الكتب التي حاولت تفكيك ظاهرة حزب الله، اجتماعيا ودينيا، عبر العودة إلى الواقع الشيعي اللبناني منذ بدايات القرن العشرين، مرورا بفترة الخمسينيات وصعود حركة المحرومين مع الإمام الصدر، ولاحقا دخول الحزب وبدأ ظهور الحوزات الصغيرة هنا وهناك، لتدريس الشباب الصغار على قيم وأفكار الخميني. أما العنوان الآخر، الذي شكل أيضاً مساهمة فريدة، وإن لم يحظ بالقراءة الكافية، تمثل بكتاب السوسيولوجية اللبنانية دلال البزري «أخوات الظل واليقين» الذي تناولت فيه حياة عشر فتيات من الحزب، يومها حاولت البزري القادمة من عالم اليسار، والكارهة لوصفاته التقدمية، القول إن هناك حداثات، وليست حداثة واحدة بالضرورة، وأنّ الاقتراب من حياة فتيات الحزب قد يكشف لنا عن رؤية أخرى للحداثة، وبذلك كانت البزري، تحاول استكمال ما بدأه عدد من الباحثين الغربيين، في دراساتهم لرؤية وسلوكيات الجماعات الدينية في الشرق الأوسط، بوصفها لا تعكس بالضرورة موقفاً أصولياً، كما تذهب لذلك مريام كوك مثلاً في قراءتها لمفهوم الجهاد عند زينب الغزالي، وإنما قد تكشف عن رؤية حداثوية إسلامية، لا تسير بالضرورة وفق التصورات الغربية.
بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان، كان الحزب يزحف باتجاه الفضاء العام البيروتي، وهنا كنا أمام رؤيتين أو شكلين من الكتابة عن الحزب، الأولى تقول إن الحزب يسير في مشروعه الخميني التسلطي من ناحية، والعابر للحدود لاحقاً (سوريا) وأن الحزب لم يعد سوى ميليشيا عسكرية كبيرة تحكم البلاد، وتمارس سطوتها على أي معارض لها، وترتكب المجازر في ريفي حمص وحلب في سوريا، ورغم أن هذه الرؤية لا يمكن تجاهلها أو نفيها كما يحاول بعض المقربين من الحزب عمله، لكن ما يؤخذ على هذه القراءات أحيانا، أنها لم تمكننا من فهم الحزب من الداخل، ومن هو هذا الحزب وشبكاته والشرائح التي تؤيده، وماذا عن عاصمته (الضاحية) في بيروت، كيف يعيش الناس، وبماذا يفكرون؟ وهل هو ميليشيا عسكرية وحسب؟ أم أنه يعبر أيضا عن مصالح شرائح اجتماعية واسعة في لبنان؟ وربما ستدفع هذه الأسئلة وغيرها بعض الباحثين إلى محاولة السير في طريق آخر، وهذا ما سنراه مثلاً من خلال ما كتبته كل من لارا ديب ومنى حرب في كتابهما المشترك «إسلام الترفيه: التفاوض على الجغرافيا والقيم في الجنوب الشيعي لبيروت» من خلال دراسة الضاحية، كفضاء للتفاوض بين مظاهر التقوى التي يفرضها الحزب، والجيل الشاب الذي أخذ يحاول من خلال أماكن الترفيه وسياسة الفرح في الضاحية، تعديل أو خلق مرونة ومساحة أوسع للحريات الشخصية، وربما نلاحظ، في هذا الجهد، تأثر الباحثتين بـ»برادايم الشباب» وهو برادايم كان قد أصبح مدخلاً جديدا لدراسة الشرق الأوسط في العقد الأول من القرن العشرين، وتعزز لاحقاً بعد اندلاع الانتفاضات العربية، لكنه في المقابل بدا أحياناً يبالغ في قدرة إسلام الترفيه على تغيير نمط الحياة الشيعي، ليس في بيروت وحسب، بل في طهران أيضا، إذ بدا أن الكثير من الباحثين الغربيين بالأخص، يراهنون على السوق وأفكاره في كبح الإسلام الشيعي الأصولي (لاحظ مثلا ولي نصر) كما أن هذا الجهد، وإن كشف عن ظهور أنماط اجتماعية جديدة في الضاحية، وبالأخص مع عودة الشيعة اللبنانيين من الخليج وافريقيا، لكنه في المقابل لم يوفر لنا رؤية كافية عن الحزب وعوالمه الداخلية. وربما هذا الفراغ هو ما سيدفع بالباحثة الإيطالية أرمينيا كيارا كلابريزي/معهد الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، باريس، إلى إعداد رسالتها للدكتوراه حول الحياة داخل الحزب، وكيف يعيش ويفكر المنضمون إليه.
أعدت الباحثة دراستها في ضاحية بيروت الجنوبية بين عامي 2005 و2011 واستندت إلى ممارسة أثنوغرافية، ومحاورات رسمية وغير رسمية مع مناضلين وكوادر في حزب الله، وقد صدرت الأطروحة لاحقاً بالفرنسية عام 2020 بعنوان «النضال في حزب الله» المعهد الفرنسي للشرق الأدنى ـ بيروت، وتُرجِمت قبل أسابيع قليلة عن دار الفرات (ترجمة خليل عيسى، جمال شحيد).
كيارا كلابريزي
حزب الله: حزب الفقراء
تأتي أهمية هذا الكتاب في كونه يقدم تصورا عن طبيعة وأفكار الأشخاص المنضمين للحزب، كما تعد ترجمته للعربية أمرا مهما، إذ غالبا ما تقتصر الدراسات عن الحزب في عالمنا العربي على الجانب العسكري والسياسي، بينما يبقى عالم الضاحية وسكانه مجهولين تقريبا. تقرر كلابريزي منذ البداية القطيعة مع بعض الانطباعات المشكلة حول جمهور الحزب، تقول قد أدرك بعض الملامح العامة للذين يشكلون المجتمع الموالي لحزب الله، بوصفهم شديدي التدين، ومعارضين للحكومة العلمانية، وينتمون لطبقة شعبية غير متعلمة، كما حاولوا جعل الضاحية مكانا معزولاً وفوضوياً يسكنه شيعة فقراء، كما تعتقد أن اعتبار الحزب «مجتمعا مضادا» كما يقترح شرارة لا يعني بالضرورة أن لا نرى فيه سوى ما يفصله عن المجتمع، وإنما بوصفه أيضاً فاعلا منخرطا في التاريخين الاجتماعي والسياسي للبلاد.
بدءا من عام 1959 قام الرئيس اللبناني فؤاد شهاب ببناء مدارس وشبكة طرق في جنوب لبنان، وسمح مشروعه هذا للشيعة بالولوج إلى الوظائف العامة، كما أتاح تطور الجامعة اللبنانية الوطنية والمجانية، للمرة الأولى، دخول الشيعة الشباب ذوي الأصول المتواضعة إلى سلك التعليم العالي. لكن رغم هذه الإصلاحات، بقيت هناك تفاوتات كبيرة موجودة بين المركز والأطراف، فهجرة الشيعة من مناطق الجنوب نحو العاصمة اللبنانية، أو افريقيا وأمريكا اللاتينية، اشتدت بدءا من الستينيات والسبعينيات، كما سيتوجه قسم منهم إلى بلدان الخليج، أو إلى العاصمة بيروت، وبذلك كان الشيعة اللبنانيون يتحولون من جماعة ريفية إلى مدينيين بنسبة 62% عام 1974 وذلك مقابل نسبة 6% ـ 7% عام 1948. في العاصمة بيروت، بقي الكثير منهم خلال هذه الفترة بلا عقود عمل، أو عملوا في القطاع الخدمي كعمال. وستتشكل مطالبات هؤلاء العمال بالتغيير من خلال أحزاب علمانية ويسارية مثل الحزب الشيوعي اللبناني، قبل أن تغدو حاملة لمطالب طائفية مع قدوم الإمام موسى الصدر، الذي لعب دورا تعبوياً من خلال دوره في إنشاء المجلس الشيعي الأعلى عام 1969، ودوره أيضا في حركة المحرومين التي أخذت تعبر عن طائفة شيعية محرومة على مستويي التجهيزات والخدمات في المؤسسات الرسمية.
بعد ذلك بسنوات، سيظهر حزب الله اللبناني، مستفيدا من سلسلة من الأحداث أهمها، ظهور الثورة الإسلامية في إيران 1979، مرورا باختفاء موسى الصدر قبلها بسنة، لكن الأهم من ذلك هي الحرب الإسرائيلية على بيروت، وبدأ الترسخ المكاني للحزب في بداياته الأولى في منطقة بعلبك الهرمل، وهي المنطقة التي تنحدر منها الكوادر المؤسسة للحزب وامناؤه العامون الأوائل، وفي نهاية 82 بدأ الحزب بالتجذر في جنوب البلاد، وهنا نلاحظ أن الحرب لعبت دورا أساسيا في التجنيد، وفي الفترة ذاتها أيضا، كان الحزب يؤسس قاعدته في ضاحية بيروت الجنوبية، وكما يشير وضاح شرارة، أخذ جمهور المساجد بالتغير بشكل كبير، فقد حل المراهقون والشباب مكان الرجال البالغين، ولم يعد الكلام يقتصر على الصلاة، بل على جلسات سياسية، ومن هنا أخذ الفقيه يتحول إلى فاعل في تنشئة اجتماعية من أجل مشروع سياسي راديكالي جديد.
الانضمام إلى الحزب
بعد هذه المقدمة والإحاطة التاريخية بدور الشيعة اللبنانيين في العقود الماضية، ستتمكن المؤلفة من إدخالنا إلى عالم حزب الله وأنصاره، ما سيتيح لنا التعرف على طقوس العبور وشروطها نحو الحزب، وما هي العوامل التي تدفع الشباب للانضمام إليه. أول هذه العوامل يتعلق بالإرث العائلي، فبعض المحاربين طوروا وعيهم السياسي في قلب عائلاتهم، كما نرى دورا للمدرسة والجامعة في عملية الحشد، وتولي الباحثة للفضاء دورا في عمليات التعبئة، فالفضاء في الضاحية مشبع بصور شهداء الحزب، كما أن بلديات الحزب تمارس نوعا من الأولوية الأخلاقية والاهتمام بالنظافة، ويلعب الدور الأخلاقي للمنضمين للحزب دورا في هذا الجانب، إذ يوصف الناشطون فيه بأنهم رجال يتمتعون بأخلاق حسنة عكس ناشطي حركة أمل، كما أنّ الحزب بقي محافظا على «أنماط معشر قروي» ففي بئر العبد تلاحظ الباحثة أنّ الناس يعرفون بعضهم بعضا، ويتعاونون في حياتهم اليومية، فوق ذلك، هناك عامل آخر لعب دورا في الانضمام للحزب، تمثل في وصول وتمركز طبقة وسطى شيعية في الضاحية، كانت قد هاجرت إلى دول الخليج وافريقيا، وتبدو ميالة لسياسات الحزب التقوية على مستوى ضبط الفضاء والأجساد.
كما تولي الباحثة اهتماما بطقوس المشاركة في جمعيات الكشافة في الحزب (كشاف المهدي) إذ يوزع الحزب سلسلة من الكتيبات باسم سلسلة المناهج الكشفية، وعلى سبيل المثال يتضمن فهرس كراس موجه للأفراد الأكثر يفاعة 25 درسا من بينها: دور وواجبات الكشافة، القراءة، ولاية الفقيه، وسائل الإعلام، السباحة، الأخوة في الإسلام.
تولي الباحثة اهتماما بطقوس المشاركة في جمعيات الكشافة في الحزب (كشاف المهدي) إذ يوزع الحزب سلسلة من الكتيبات باسم سلسلة المناهج الكشفية، وعلى سبيل المثال يتضمن فهرس كراس موجه للأفراد الأكثر يفاعة 25 درسا من بينها: دور وواجبات الكشافة، القراءة، ولاية الفقيه، وسائل الإعلام، السباحة، الأخوة في الإسلام.
كراسات حزبية
وعلى صعيد الناشطين في الحزب، تدرس المؤلفة الأطوار والمناهج التي يتلقاها الاشخاص المقبلون على الانضمام للحزب، وهنا تلاحظ كلابريزي أن هذه المناهج لا تعني أن تشكيل الهوية الحزبية تتم من فوق إلى تحت، بل هي أيضا بناء مشترك بين الحزب والفرد الملتزم، وتبدأ أولى خطوات الانضمام من خلال علاقات القرابة والصداقة، فدونها لا يمكن الاقتراب من عالم الحزب بسبب الظروف الأمنية، وبعد الدخول يقسم التأهيل الحزبي إلى تعبئة ثقافية وتعبئة عسكرية، ويتم تنظيم دورات التعبئة الثقافية للحزبيين من قبل «الوحدة الثقافية المركزية» التي تتألف من رجال دين مختلفين، وتعطى فيها كتب شرح مبادئ الإسلام، وهناك أيضا كتب باللغة الفرنسية للشيعة الذين نشأوا في افريقيا، ولا يقرؤون العربية، بعد ذلك تبدأ مرحلة ثانية تتمحور حول نظرية الخميني في ولاية الفقيه، بالإضافة إلى هذه الدورات، يطلب من الأعضاء المشاركة كمتطوعين في الأنشطة التي ينظمها الحزب والتي تتراوح بين تنظيم الاحتفالات، وصولاً لدورات اللغة للأطفال وتوزيع المساعدات من أجل توطيد مجموعة الحزبيين وخلق التماسك بينهم، وفي مرحلة متقدمة يصبح الناشط عنصر تعبئة، كما يمكن لبعضهم أن يصبحوا مجاهدين في الحزب، وخلال هذه المراحل يعمل الحزب في حياة المنضمين إليه حديثاً كحزب يشمل كل جوانب الحياة، لأنه يضبط كل لحظات الحياة الاجتماعية من خلال اضطلاعه بحياتهم الخاصة، ويقدم لهم الأنشطة الترفيهية ودورات تنمية المهارات، كما يوجههم نحو المطاعم التي تحترم المبادئ الإسلامية، وهنا تبدو الباحثة حذرة من التسرع في استنتاج أن هذا السلوك يعني أن الحزب يمارس سياسات ضبط رمزية عنيفة على المنضمين إليه، أو أن هذه العلاقة تعبر عن حالة عماء من طرف أفراده، فهي ترى أنّ التحليل يجب أن يأخذ بعين الاعتبار المنافع الإيجابية التي عبر عنها بعض من التقت بهم، فالانخراط في هذه الطقوس، يضمن لهم بالمقابل الانتماء إلى مجموعة واسعة، وعدم الشعور بالعزلة في الأوساط التي يعيشون فيها، وهذا ما أظهره كل من بودال وبنوتييه، في أبحاثهما حول الحزب الشيوعي الفرنسي، ذلك أن عمليات «وهب الذات» التي يقدم عليها المنضمون للحزب، ليست لا واعية، بل هي عملية واعية وحرة، لأن «وهب ذاتك لمنظمة ما يمكن أن يعتبر كذلك على أنه وضع الذات في خدمة تلك المنظمة، أي وضع مصالحها فوق مصالح الفرد الخاصة» وفي حال حزب الله، نرى أن واهب الذات يغدو بطلا يضحي بحياته الشخصية من أجل الحزب وخدمة المجتمع، وبالتالي فالحزب بالنسبة لهم «مؤسسة تشكيل معنى» تقترح شكلا من أشكال «إضفاء السحر» على العالم، وهذا ما يفسر صعوبة فك الارتباط به. ومما تلاحظه المؤلفة في فصل آخر حول القاعدة الرمزية للحزب في الضاحية، أن الكثيرين عبروا لها خلال فترة الدراسة (2005-2011) من أن قدوم الحزب قد تزامن مع طريقة مختلفة في عيش دينهم، تعارض الممارسة التقليدية للجيل السابق، أو الدين العادي، فـ»الإسلام الحقيقي» وفق تعبيرهم يجب أن يغطي جميع شؤون الحياة، وبالنسبة للمشاركين في هذه الرؤية، لا يبدو المظهر الخارجي مجرد تعبير عن تدين فرداني أو داخلي، بل هو وسيلة ضرورية لتشكيل هذا التدين، كما تغدو الدعوة لها وتطبيقها، ليست مجرد ممارسات وتقنيات ضبط، بل الوصول إليها بمثابة حالة من السعادة، وهذا ربما ما يفسر أن مشروع المقاومة وفق هذه الرؤية لم يعد مجرد مشروع عسكري لمواجهة المحتل، بل يشمل أيضا الحياة اليومية، وبالتالي يصبح موضوع استبعاد الشيعة غير المؤيدين لهذه الرؤية أمرا مفهوما، كما يصبح موضوع محاربة الظلم متعدد المعاني، فهو إما يكون لحماية المجتمع من معتد خارجي، أو من أطراف في النظام السياسي الداخلي، ممن تسعى لتهديد الهوية الشيعية الجديدة (الدين الحقيقي) ولذلك ترى الباحثة أن الالتزام بحزب الله بالنسبة لشريحة واسعة في العقد الأخير، لم يعد وليد سياسات القوة فقط التي يتبعها الحزب، بل أصبح طريقة حياة بالنسبة لهم، ينظر إليه ويعاش بصفته رسالة، ويصبح أيضا محاكمة فردية من خلال الممارسة اليومية المرتبطة بالجسم وبالصوت وبالرمز والفضاء داخل الضاحية الجنوبية. وينبغي لفت النظر إلى أن الفترة التي تناولتها الدراسة كانت قبل أن تبدأ أحداث سوريا، لذلك فالباحثة تشير في نهاية الكتاب إلى هذه النقطة وإلى ظهور تعريفات هوياتية جديدة للحزب، لكن ذلك لا يقلل من جدية ما قدمته على صعيد التعرف على جماعة حزب الله، بوصفها جماعة عقيدية لها أساطيرها وسردياتها.
كاتب سوري