الرئيسية / أضواء على / علاقة البطريرك صفير بـ”حزب الله” والشيعة: شهادة على وقائع

علاقة البطريرك صفير بـ”حزب الله” والشيعة: شهادة على وقائع

بقيت أتردد على البطريرك الفقيد في بكركي منذ عام 1992 حتى بعد استقالته من منصبه الكهنوتي ولم أشعر يوماً أنني في حضرة رئيس طائفة دينية تنحصر اهتماماته بشؤونها الكنسية والإجتماعية والسياسية وموقعها بين الطوائف الأخرى بل إنني في محراب رجل فكر ورأي وثقافة وموقف في زمن عز فيه وجود هذا النوع من الرجال في لبنان الذي كان في حينه يترنح تحت وطأة عواصف مكفهرة ورياح عاتية تتقاذفه في كل اتجاه حتى أصبح مصيره بل وحتى بنيته تثير الهلع والجزع في نفوس البعض من أبنائه الذين احتفظوا بإيمانهم الراسخ بديمومته وأنه كان إلى وقت قريب تجربة حضارية وثقافية رائدة في شرق متعثر ومحيط لم يستقر على حال وبأنه لا زال يحتفظ بجدارته وأهليته ليجتاز هذه الأنواء وينتفض ويبعث من جديد وكان هذا الرجل يبدو لي في كل مرة وكأنه أتى في زمن غير زمانه وعصر غير عصره قديساً يمثل ويثبت هذا الإيمان ويزرع أملاً يلمع من أعماق هذه الغياهب الحالكة.

كان بطريرك لبنان وروحه وتراثه وكانت بكركي في ظله تبدو وكأنها المعلم اللبناني الوحيد المحصن الذي لم تعكر نقاوته هذه الزوبعة المأساوية التي اجتاحت البلد واكتسحت كل قيمه ومقوماته. وفي كل مرة أكون في حضرته يزداد يقيني بأنه يصبح أكثر ارتياحاً وانسجاماً حينما تكون المعاطاة معه كزعيم لبناني وطني تثقل كاهله هموم ومصير وطن وليس كرئيس طائفة وأمير كنيسة لها موقعها التاريخي والريادي فحسب ولا أنسى التفاته واهتمامه واسترجاعه لما قلت في إحدى خطبي في مهرجان أقيم برعايته في البترون بمناسبة ذكرى تأسيس لبنان ودور سلفه البطريرك الحويك عندما رفض تلبية الدعوة إلى مؤتمر الصلح من السياسي الفرنسي كليمنصو بصفته بطريرك الموارنة وأصر على أن يستقبل كممثل لكل لبنان وحرص على أن يحصل على تفويض رسمي من مجلس إدارة لبنان الذي كان يضم كل الطوائف اللبنانية وممثليها وكان أن استقبل في أوروبا بهذه الصفة الوطنية وحدها، فأثنى البطريرك على موقف سلفه واستعاد تفاصيل استقباله البروتوكولية وأسهب في التأكيد على إيمانه بأن دور البطريركية المارونية في لبنان هو موقف لبناني عام يتقدم عن دورها في رعاية شؤون طائفة وحدها. وكان إيمانه الجازم يبدو ثابتاً واضحاً في كل رأي أو موقف أو مناسبة عرضت له أو عرض لها حتى آخر أيامه.

في إحدى زياراتي المتكررة إلى طهران وكنت أحمل رسالة من الرئيس الفرنسي (شيراك) إلى الرئيس الإيراني وكان حينها هو الشيخ هاشمي رفسنجاني وعندما أنهيت مهمتي وتسلمت رده طلب مدير شؤون رئاسة الجمهورية السيد (الفيروزي) الإنفراد بي لأمر هام حيث أبلغني – وكان برفقته الوزير في الحكومة الإيرانية وممثل الرئيس الشخصي كاظم جوادي – برغبة الرئيس هاشمي بدعوة البطريرك صفير للقيام بزيارة إلى إيران في حال موافقته على تلبيتها على أن يستقبل كرئيس دولة في زيارة رسمية بكل ما تقتضيه من مراسم وترتيبات وأنهم نظموا لي في الغد عدة زيارات إلى بعض رؤساء الطوائف المسيحية وكنائسهم ومقراتهم في طهران – لأنقل ذلك طبعاً إلى الضيف المأمول – وحين نقلت إليه ما كلفت به عرفت بوادر جوابه من تعابير وجهه وقبل أن أسمعها من لسانه بأنه في الوقت الحاضر ليست زيارة المسيحيين – وجلهم من الأرمن – من الأمور المستعجلة والملحة أما زيارة إيران فيتشوق إلى القيام بها في المستقبل حينما تستقر الأمور في لبنان وتتضح طبيعة العلاقات مع إيران بعد أن يتحرر لبنان من كل نفوذ أجنبي أو غريب.

كنت أشعر في هذه الفترة أن اهتمام الفقيد وهواجسه بشكل أساسي تنطلق من آثار انحسار التواصل السياسي وحتى الإجتماعي بين أبناء الوطن الواحد وعائلاته الروحية المختلفة فمعظم قادة الموارنة الرئيسيين مبعَدون قسراً وقهراً عن الساحة وقادة المسلمين مزروعون أو مقيدون في حدود رسمتها قوى الأمر الواقع ولا يمكن لهم تجاوزها ولو أرادوا.

وطالما ردد أمامي بشيء من الخوف والألم أن الجيل الناشئ من المسيحيين لا يعرف بيروت الغربية وضواحيها إلا بالإسم والعكس صحيح وهنا يكمن الخطر الذي يهدد البلاد بنشوء مجتمعين متمايزين في داخل وطن واحد يقع في قلب منطقة ملتهبة تسعى قوى فاعلة فيها إلى استغلال هذه الثغرة لمصالحها كما تخطط لها على حساب كينونته واستقراره ووحدة مكوناته المفترضة.

كان حزب الله في هذه الفترة يتابع نموه المطرد مما يسمح له بالتواصل مع من يريد وكان البطريرك يتابع مسيرة “ابن عمه” (وهي الإشارة التي كان يقصد بها الأمين العام لتشابه الأسماء بينهما) ولم أُفاجأ عندما لمست عند “ابن عمه” نفس الرغبة في التواصل فكانت الزيارة التاريخية التي قمت بها مع وفد رفيع المستوى برئاسة السيد ابراهيم أمين السيد إلى بكركي وكان لها وقع إعلامي هائل على الصعيدين المحلي والإقليمي إذْ كانت تعتبر قبل ذلك من المحرمات والمحظورات. وما أثار تساؤلي واستغرابي اليوم أن السيل الهائل من المراثي والمقالات والآراء والذكريات التي تظهر في وسائل الإعلام تكاد تجمع على أن علاقة الفقيد بحزب الله اتسمت بالغموض والإلتباس وبعضهم وصفها بالعدائية أو السلبية وهو الأمر الذي يناقض الواقع تماماً فقد استمرت هذه العلاقة مدة طويلة بدون انقطاع بل كان الحوار الجدي والتفهم المتبادل سمتها المميزة رغم بعض التباينات في مقاربة بعض الأمور التي لا تزال حتى اليوم محل نقاش ودراسة وتجاذب. وقد قادت هذه العلاقة بعد جلسات حوار وتفاهم مطولة كان بعضها بحضور البطريرك شخصياً إلى تأليف لجنة تمثل كلاً من الفريقين انتدب فيها الحزب كلا من السيد إبراهيم أمين السيد وبعده النائب عن حزب الله المرحوم الشيخ خضر طليس والسيد نواف الموسوي النائب الحالي كما انتدب البطريرك لتمثيله فيها كلا من المطران مكسيموس مظلوم والأمير حارس شهاب واتفق الفريقان على أن يكون كاتب هذه السطور مقرراً لها باعتباره مستقلاً عن الطرفين. وانطلقت اللجنة في مهمتها في وضع ورقة مبادئ مشتركة كان البند الأول فيها وهو من وضع البطريرك شخصياً بأن “من حق كل شعب تحتل أرضه أن يقاوم الإحتلال بجميع الوسائل” وهو البند الذي قوبل بحماس وارتياح من الفريق الآخر.

وربما أن الظروف التي أعقبت هذه الفترة وموجة التجني والعداء التي يحركها أكثر من طرف على بكركي وسيدها والتي صدرت أحياناً حتى عن بعض الأوساط الكهنوتية وربما الفاتيكانية حالت دون وصول هذه الورقة إلى نهاياتها العملية المتوخاة.

ولا بد لي وأنا أقف برهبة وخشوع أمام غياب هذا الرجل من أن أسجل اهتمامه ليس بحاضر لبنان ومستقبله بل بتاريخه بشكل خاص وعندما أبلغته أنني أقوم بدراسات حول تاريخ لبنان وخصوصاً شيعته الذين لا زالوا مغيّبين عنه أبدى رعايته للفكرة ويسّر لي الإطلاع على كنوز من الوثائق في أدراج البطاركة المحفوظة منذ قرون عديدة وبدا لي كما لو أن بعضها تعرض للتجاهل والإهمال وكأنها لم تستوقف انتباه أحد مع أن من شأنها أن توضح أحداثاً تاريخية أساسية قد تبدل الكثير من المسلمات المتوارثة والمتواترة وتبرز ملامح جديدة عن علاقة الطوائف اللبنانية مع بعضها من جهة ومع البطريركية من جهة أخرى. ويكفي أن أجد في درج البطريرك الحويك منشوراً موقعاً من حاكم جبل لبنان الشيعي (1551م) يبدي إعجابه “بموقف النصارى المعادين للوالي العثماني الذي يقتل النصارى والمتاولة وهو عدو مشترك ودعوتهم إلى الإنضمام إلى إخوانهم الشيعة في مقاومتهم للأتراك وإن يأتوا بما شاؤوا من رجال دين ويعمروا كنائس للقيام بطقوسهم بكل حرية وحماية وإعفائهم من دفع الجزية ويطلب منهم تعليم إخوانهم المتاولة القراءة والكتابة لقاء أجر محدد”. ومجموعة أخرى من رسائل الحكام الشيعة إلى البطاركة المتعاقبين “بالتعهد بحمايتهم وإلزام العصاة بطاعتهم وتأمين المنزلة العالية لهم بالكرامة والعزة وتنفيذ حكم روما في الأمور الخلافية مع أساقفتهم على رأي روما والله ومحمد وعلي” وفي هذه الرسائل تأكيد على أن البطريركية مؤسسة عامة يدخل في تعزيزها الشيعة والبابوية والشريعة الإسلامية. لذلك لم أجد غرابة في العثور في أحد الأدراج على وثيقة صادرة عن مؤتمر شيعي عام ضم شيعة لبنان بمختلف مناطقه من جبله إلى بعلبك والبقاع ممهورة بأختامهم يحدد فيها المبادئ العامة التي تحكم العلاقة فيما بينهم وأيضاً بين سائر المجموعات الأخرى وتزخر بتعابير عصرية غير مألوفة بلغة ذلك العصر من عدالة وجمهورية وتحرر وإنصاف ومجد ووطنية ومحبة ووحدة الإنسانية وتطبيق القوانين الرادعة على المخالفين وأطلقوا عليها إسم “الرقيمة الشرعية لشيعة الولاية واللواء” وتبدو كأنها متقدمة على عصرها – عام 1858 -.

هذه هي بعض اللمحات الخاطفة التي لا تسمح هذه العجالة بالتوقف عند غيرها من المحطات في حياة مديدة وزاخرة لرجل أسطوري بدأها كمدرس أدب ثم أمير كهنوتي ليصبح ضمير وطن بأسره على اختلاف طوائفه ويقضي آخر أيامه في عزلة صوفية بين ذكرياته وأوراقه.

إن مهمة تقييمه وسرد سيرته بكامل أحداثها لا بد أن تكون يوماً من الصفحات الأثيرة في تاريخ طائفة عميقة في جذوره ووطن لا يزال حتى اليوم يفتقد بين سطوره ملامح لا بد أن تتأصل وتصبح من بديهياته ومحل إنصافه ويحتل بطلنا في مقدمة هذه الصفحات أكثرها إشراقاً ومأساوية وعبرة.

اضف رد