الرئيسية / مقالات / عرض زنزلخت

عرض زنزلخت


سمير عطاالله
26092018

يكره العرب المنطق لأنهم يخشون أن يلحق بهم الخسارة. فاللجوء الى العقل، أو القبول بالتعقل، قد يفقدك ما حصلت عليه بغير حق. أو بغير اجتهاد. أو بغير سعي. لذلك، قال احدهم “من تمنطق فقد تزندق”. ليس إلا. فالمنطق أقرب الى الكفر لأنه طريق يفضي غالباً إلى العدل. والضعيف أو المرتكب أو المزور، يخشى دائماً الانفضاح. لذلك، تفضل اكثرية الناس الحفاظ على جهلها. والقرآن الكريم يختم آيات عدة بأن اكثرية الناس لا يعقلون، أو لا يفكرون.

وهذا ما يسميه العالِم العراقي علي الوردي في كتاب شهير “مهزلة العقل البشري” ويستند الى البروفسور كارفر في القول إن التنازع البشري له سببان طبيعيان في الإنسان: الأول استحالة اشباع الحاجات البشرية كلها، والثاني حب الإنسان نفسه وتقديره أكثر مما يستحق في حقيقة أمرها.

لذلك، لا يعود يقف عند حد: لا في المال ولا في الحكم ولا في العشق. حتى التعاون جزء من النهم البشري، كما يقول كارفر، فالإنسان يتعاون مع بعض الناس لكي يكون أقدر على محاربة البعض الآخر. ما من تعاون مجرد في حد ذاته. وهكذا ينتظم البشر فِرقاً وتجمعات، أو يقوّون صِلاتهم القبلية غير عابئين بكل ما يحدث للآخر من ظلم أو اجحاف.

يقال إن بابلو نيرودا كان واقعاً دائماً في حب المرأة التالية، لأنه قد سئم الحالية. فالحالية لا تؤكد انتصاره الرجولي وأصبحت أمراً مفروغاً منه. والمسألة ليست أبداً في انه يحب تلك المرأة، بل أنه يحب نفسه.

كان لا بد من القوانين تهذب الجشع البشري وتؤدب معرفة النفس والحقوق والحدود. وصار مقياس التحضر بين الناس مدى تعلقهم بالقوانين أو بالخروج عليها. وقد حل التمدن في الدول الملحدة، لأن أهلها احترموا، أو أرغموا على احترام القانون، ولو ان بعضهم كفر بالايمان.

ولا ميزة على الايمان طبعاً، لكن الفارق في الدول العاملة بالقانون أنه اصبح له، على مر السنين والتجارب، تفسير واحد. وتشكل الاحكام السابقة قانوناً في حد ذاتها. ومهما بلغ شأن علماء القانون فإنهم إذا ارادوا حسم أمر ما، عادوا الى سابقة سجلها زميل لهم من قبل.

وإلاّ فبابلٌ لا نهاية لها. وبدل ان يصبح القانون هو المرجع ، يصبح هو النزاع. أو يصبح التأويل هو الفتنة، كما يحذر القرآن الكريم. وهذا ضلال لا نهاية له، كما هو جار اليوم في بلد الدستور واطلال روما القانونية.

التفسير يعيق تأليف الحكومة منذ خمسة اشهر: ليس فقط تفسير الدستور، بل حتى تفسير النسبية وعلم الجبر الذي تُبنى عليه اليوم علوم الرحلات الى الفضاء وتعميم السيارة الكهربائية. أنا مضطر، مع الاعتذار، لأن أروي مرة اخرى حكاية جدي أبو قيصر سلامة، العملاق الهائل الذي تقاعد في الساحة تحت شجرة الزنزلخت على كرسي ومعه نارجيلته.

وكان بطل القوى السابق يعرض علينا عرضاً محيراً حقاً: “راح حزركم حزورة، إذا حزرتوا بتجيبوا لي ملبس، وإذا خسرتوا بتجيبوا لي بونبون!” وإذا حلّلتَ الأمر جيداً فإن الرجل لم يخالف أي قانون على الاطلاق. كل ما هناك انه وضع قانوناً جديداً.

أين المشكلة في قانون أبو قيصر سلامة؟ في أنه مستمد – ولو في المزاح- من قانون الاقوى. قانون المسيو دولا فونتين، الذي وضع أيضاً منطقه الخاص لبند: قانون الأقوى هو دائماً الأفضل.

كانت جدتي تشرح هذه النظرية على طريقتها وهي تصلي سبحاتها طوال ساعات اليقظة، فتقول معلقة على حالة من الحالات التي نحن فيها اليوم: “القوي بقواه”! تسمع كثيراً هذه الايام عن ظاهرة في المدارس لم تكن معروفة على هذا النطاق من قبل يسمونها “التنمّر”. وهي غلاظة الولد الغليظ على الولد المؤدب، أو زعرنة الازعر القادم من بيت بلا اخلاق على رفيق أضعف منه.

سلوك الكبار يمتد الى الصغار. لا يمكن في كل هذا الهياج العام والزجاج المفيَّم والتغريدات السفيهة القليلة الذوق والقليلة الأدب، أن تبقى المدارس محصنة. تعكس شبكات التواصل حرباً قائمة دون اعلان. وتفوح منها لغة تقسيمية تعبر عن حال الامتعاض العام. وعاد البعض، في المحافل الخاصة أو على المنابر، كما في مقالات الزميل غسان حجار، الى الحديث عن اللامركزية. لكن المركزية تحتاج الى أناس يعرفون ما هو القانون لا الى امرأة تضرب الشرطي لأنه حذرها من المخالفة. تلك المرأة ليست حالة فردية. إنها تعبير عام عن مستوى عام. المستوى الذي يقوده السياسيون، إما باستخدام لغة الشارع وإما بالتهديد بالنزول إليه. عادة يهدد الشارع بالنزول الى الشارع وليس الدولة ولا المؤتمنون ولا المنتخبون.

وفي ذلك طبعاً اساءة مجانية الى العهد، الذي هو للبنان. فإذا أخفق، نخفق جميعاً. وتخفق الدولة أو ما بقي منها. ومن الخطورة المعنوية علينا جميعاً أن انتقاد العهد خرج الى العلن. ووجه الخطورة أنه اصبح يشمل رجال دولة من طراز تمام سلام ابن بيت الرجل القائل: لا غالب ولا مغلوب. فقد بدأت لغة الغلبة تقسى وتشتد. ونحن الذين فرحنا بدعوة الرئيس عون الى جعل لبنان مركزاً لحوار الحضارات، يحزننا ان الحوار صعب بين رئاسات الدولة الثلاث. وان المحسوبين عليه، من أساسيين أو هتافين، يتحدثون لغة متغطرسة أو لاغية. وتتكدس هذه التعابير والتصرفات لتصبح جداراً في نفوس الناس.

ذات عام سافر الرئيس شارل حلو الى الأمم المتحدة بعدما ملأ وفده بكبار رجال الدولة. متخاصمين أو متحالفين. كان رشيد كرامي يرفض التحدث مع كميل شمعون، لكنهما وصلا الى نيويورك تحت علم واحد، وجلسا في الجمعية العمومية ضمن وفد واحد. واصغيا الى خطاب واحد يلقيه رئيس الدولة. وكنا نتمنى لو ان الرئيس عون كرر المبادرة هذه المرة وملأ الوفد بممثلي الفئات اللبنانية، بحيث لا نعكس أمام الأمم المتحدة مدى عمق الانقسام الوطني والسياسي والاجتماعي الذي نحن فيه. كما لا يجوز ان نسجل، لا في الداخل ولا في الخارج، ان الخطاب الذي يلقيه الرئيس، في مناسبة مثل هذه المناسبة، لم يتم تداوله في مجلس الوزراء، المستقيل في أي حال.

كثيرون تمنوا، بكل صدق، لو ان الرئيس استثمر الرحلة الى نيويورك لاستعادة الديبلوماسية اللبنانية ودورها، بعدما رفض وزيرها استقبال الأمين العام بان كي – مون خلال زيارته لنا، ورفض استقبال الأمين العام للجامعة العربية ووزير خارجية مصر أحمد ابو الغيط. وبلغت الديبلوماسية الحديثة أوجّها عندما وصل وزير خارجية أميركا الى القصر الجمهوري ووجد ان السير قد أخر وصول نده اللبناني. قبل ان نجعل بيروت مركزاً لحوار الحضارات، يجب ان نضع لائحة باسماء الذين يقبل السيد وزير الخارجية باستقبالهم. وما هي أوقات فراغه.

اضف رد