الرئيسية / مقالات / طيبة الشعب والأمير الحديث: عن مكيافيللي الغائب في الثقافة العربية

طيبة الشعب والأمير الحديث: عن مكيافيللي الغائب في الثقافة العربية


وسام سعادة
Jun 25, 2018
القدس العربي

 

بصرف النظر عن إمكان الاستثبات من تاريخيتها، تحتفظ حكاية والي مصر محمد علي باشا مع مترجمه أرتين أفندي الذي طلب منه نقل كتاب «الأمير» لنيكولو مكيافيللي إلى اللغة التركية وتلاوته عليه، بطرافتها كلّ مرة تستعاد فيها. في هذه «الأنكدوت» لم يجد الداهية محمد علي ما يثيره جدّياً في كتاب «الأمير» لاستشعاره بأنّه أعلم بالحيل والمكائد، فسرعان ما طلب من أرتين أفندي التوقف عن ترجمة هذا الكتاب، والانصراف لأمر آخر.

هذه الحكاية تأخذنا مباشرة إلى السؤال الذي يطرحه الفيلسوف الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي: لمن وجّه مكيافيللي كتابه «الأمير»؟ شكّك غرامشي في أن تكون فائدة من الأساس في انتماء هذا الكتاب لـ«أدب نصح» الطغاة. فالواقعية التي تتضمنه أكثر جذرية من الواقعية التي يحتاجون اليها. واقعية القابضين على السلطة تحتاج إلى النسج الدائم لغشاوة تحمي دوافعها ومصالحها وأفعالها، وتلبسها ثوبا من العدل والتقوى، ومن الضرورة التي لا غنى عنها. هي واقعية «نصف الحقيقة»، وما يقوله مكيافيللي بصددها هي أنّ الحكّام يذهبون أيضاً ضحايا الأوهام التي يروّجون لها.
لأجل ذلك يستبعد غرامشي أن يكون الغرض من كتاب «الأمير» تقديم النصح لذوي الأمرة، خاصة وأنّه يبرز فيه التناقضات المستفحلة في طبيعة سلطانهم نفسه، ويربطها بشروط الصراع الاجتماعي. فرضية غرامشي كانت في المقابل أنّ كتاب «الأمير» موجّه إلى الطبقة الصاعدة في عصره، وفي مدينته، إلى البرجوازية الفلورنسية ذات المصلحة في «الواقعية الشعبية» بإزاء «واقعية نصف الحقيقة» التي يحتاجها الطغاة وبابا روما في مسعاه لفرض هيمنته على المدن الإيطالية. وقد بنى غرامشي على هذا المثال تصوّره بأنّ كتاب «الأمير» الذي كان موجّهاً للبرجوازية في بدايات صعودها، يمكن أن «يجيّر» لـ«الأمير الجديد»، أي الحزب الثوري للبروليتاريا في عصره، الأمر الذي دفع بالمفكر الفرنسي كلود لوفور في سبعينيات القرن الماضي إلى التوقف أمام إشكالية القراءة الغرامشية لمكيافيللي وحدودها. فهي من ناحية تلتقط بذكاء أنّ كتاب «الأمير» ليس موجّهاً للأمير الحاكم، للطبقة المسيطرة التي ليس من مصلحتها تجرّع الواقعية الكاملة، بل من مصلحتها الإبقاء على واقعية النصف حقيقة، كي لا تضيّع حظّها من المشروعية، طالما أنّ كل مشروعية تحتاج إلى الطمس والكذب والرياء كي تسبغ على صنائع الحكام «معقولية»، ووجهاً رؤوفاً. لكن هذه القراءة، وهذا مطبّها، تقع في وهم التصوّر بأنّ الفاعل السياسي، «الأمير البديل»، له حيثية مستقلّة قائمة بذاتها، وخصوصاً عندما تسقط على الحزب الشيوعي فكرة «الأمير الحديث»، الأمير الجماعي «التجسيدي» لأسطورة الأمير الفردي عند مكيافيللي.
صحيح أنّ غرامشي أحسن توظيف مفهوم جورج سوريل عن «الأسطورة» في العالم الحديث، من حيث هي فكرة قادرة على استباق المستقبل بتشخصها كهالة محرّكة لقوى فاعلة في الحاضر، لكنه في تحويله الحزب الثوري إلى «أمير حديث» كان يساهم بقسط من تجفيف مصادر حيوية هذه الفاعلية، بالاسترسال في وهم الحيثية القائمة بذاتها للمستوى السياسي من مستويات الصراع، «مستوى الأمير».
قلّما جرى الاهتمام بأعمال نيكولو مكيافيللي في الفكر العربي الحديث. يبدو أنّ طبقات هذا الفكر من القرن التاسع عشر إلى اليوم لم تجد فيه ما يستثيرها بالفعل، وما زال فكر مكيافيللي مرتبطاً، حتى بين النخب الثقافية المسيّسة العربية بالاختزال التبسيطي للمكيافيللية على أنّها «الغاية تبرّر الوسيلة» لا أكثر ولا أقل. بهذا المعنى، مثلما لم يشعر محمد علي باشا أنّ الكتاب موجّه له، أو يمكن أن يخرج منه بفائدة كحاكم، كذلك كان الأمر بالنسبة إلى النخب، التي قد تجدها مجتذبة بأدبيات في مناهضة الاستبداد والطغيان، من نوع كتاب فيتوريو آلفييري «في الطغيان» الذي لعب دوراً محورياً في صناعة نظرة النخب العثمانية ثم ما بعد العثمانية، لكنها لم تبد حماسة لا لقراءة مكيافيللي ولا للدراسات المكيافيللية المتراكمة منذ عقود طويلة، والتي تحتل مكانة مفصلية في الفلسفة السياسية المعاصرة، هذه الفلسفة السياسية التي لا تجد عملياً لها مطرحا في تقسيمات الأكاديميا العربية بين «الفلسفة» وبين «العلوم السياسية»، فتهمّش هنا وهناك وتضيع كما لو أنها لاغية. حتى غرامشي، الذي أطنبت النخب الثقافية العربية في الاستعانة به كمصفوفة شعارات ضد الماركسية ذات المصدر السوفياتي، وبخاصة فيما يتعلّق بمقولات له انتزعت من سياقاتها وإشكالياتها، فيما يتعلّق بـ«الكتلة التاريخية» و«الهيمنة» و«حرب المواقع وحرب الجبهات» و«المثقف العضوي» ودور المجتمع المدني، أكثر ما أهمل فيه اشتغاله على نيكولو مكيافيللي. بهذا المعنى، «الإندكوت» حول محمد علي وأرتين أفندي، قد لا تكون حصلت بالفعل، لكنها حاصلة على امتداد عقود طويلة من الفكر السياسي العربي الحديث: استبعاد التأثر بـ«اللحظة مكيافيللي» في تاريخ الفكر.
من موقع مختلف تماماً عن غرامشي أو عن لوفور، من موقع ليبرالي يميني، يحتفظ بيار مانون في «التاريخ الفكري لليبرالية» وغيره من الأعمال بالجدارة في تكثيف مغزى هذه اللحظة، لحظة مكيافيللي في تاريخ الفكر. يعمل مانون مقارنة بين مكيافيللي وبين من سبقه مثل دانتيه الليغيري ومارسيل من بادوا، هؤلاء فشلوا في تحرير الفكر من أنساق العصر الوسيط الثيوقراطية، لأنّ نضالهم ضد هذه الأنساق بقي في إطار «الأرسطية»، في إطار نشدان مقاصد عليا، والبحث عن تحقيق الفضيلة. أما مكيافيللي، كما يقدّمه مانون، مستعيناً بليو شتراوس، فقد حرّر السياسة من ثقل نشدان الفضيلة والخير هذا. حرّرها من الوهم. أظهر أن الحيثية الأساسية في السياسة للشر، ومكيافيللي بهذا المعنى أوّل معلّمي الاشتباه. «الخير» بالنسبة له لا تشرع له الأبواب ولا يمكن الحفاظ عليه إلا بمعونة «الشر». «الخير» مبني على «الشرّ». لم يعد يستفهم مع مكيافيللي إذا كان «كبار القوم» أو «أهل الشوكة» يتقصدون الخير ويقتربون من الفضيلة بأعمالهم، بل بمقدار ما يعطّل شرّ بعضهم شرّ البعض الآخر. أما الخير، فاحتفظ به مكيافيللي لـ«البوبولو»، للشعب في مدينته. إنما كـ»خير» سكوني، كـ»طيبة الشعب». في نفس الوقت، حقق تبديلاً جذرياً: لم تعد هناك «فضيلة» يسعى الأمراء والأحبار لتحقيقها وتجسيدها، بل «طيبة شعب»، وهي ترجع إلى أن الشعب لا يحب أن يظلم، ومن مصلحة الحاكم أن يتقرّب من هذه الطيبة الشعبية ويستند إليها شرط أن لا يأخذه الوهم بأنّ مصلحته تتماهى مع مصلحة هذا الشعب.
التعمّق أكثر بكتب مكيافيللي سيظهر لنا أنّ «الشعب» وخصوصاً من يسميهم «العوام» ليسوا بهذه السكونية التي يختصرهم بها بيار مانون في تقديمه لمكيافيللي. يبقى أنّ «طيبة الشعب» في نقضها للفلسفة السياسية القديمة والوسيطة الباحثة عن «الفضيلة» هي بمثابة اللامفكر به بامتياز في الفكر العربي المعاصر، وفي الخطابات الأيديولوجية والسياسية العربية، التي عرجت وخرجت من فترة «الربيع العربي» دون أن تجد بعد ما يدفعها لإعادة التفكير في المقولات المزمنة التي تتحرّك ضمنها، تارة لهجاء الاستبداد وتارة للتعطش إلى الديمقراطية أو الكفر بها أو تكفيرها. بدلاً من «طيبة الشعب» بالتقديم المكيافيللي لها، كان أن ربط «الشعب» في هذا الفكر العربي بمفاهيم متهافتة عن «الفضيلة»، أو جعل هو نفسه جسداً للفضيلة. أهم درس راهني لمكيافيللي اليوم، أن الشعب ليس «فضيلة»، بل فعل نقض لمفهوم الفضيلة، فعل نقض لفكرة أن الفضيلة يأتي بها الأمراء والأحبار، أو حتى هو، الشعب.

٭ كاتب لبناني

اضف رد