سمير عطاالله
النهار
28032018
“مشكلة زمننا هذا، أن المستقبل لم يعد كما كان”
بول فاليري
اواخر القرن السابع عشر كان الفيزيائي الفرنسي بليز باسكال، يعمل على وضع حسابات تؤدّي الى “الحركة الدائمة”، فانتهى، مصادفة، الى اختراع الروليت. وتلقف الاختراع التجار وخرابو البيوت، واصبحت مدن بكاملها تقام في سفح كازينو كما في لاس فيغاس.
هذه هي الرواية التاريخية لولادة شبق الخسارة وشهوة الافلاس. أما ما أضيف إليها من روايات، فإن بليز باسكال راح يجرب ان يهزم اختراعه ويربح. وأمضى بقية العمر لا يستطيع. ولست أعرف من وضع قانون الانتخاب العجائبي، لكننا جميعاً نعرف أنه ذلك الذي لا تزال تقام حلقات لشرحه وتفصيل أحاجيه، والنتيجة مثل حكاية ابريق الزيت، المطلوب أن تبصم لا ان تفهم. وأما النتيجة الأخرى فهي قاعدة الروليت: الكازينو دائماً يربح، ولن يقرض الخاسر أجرة التاكسي للعودة الى البيت.
لكنه سوف يقنعك بشيء أساسي: هذا هو خيارك وقرارك وملء ارادتك. حرية تساق فيها جماعة – لا أفراداً. فالهاجس الأول هو الغاء الذات وتحويل الناس الى هتّافين، واستعاة لغة القرون الوسطى، في تعظيم المقامات.
كنت أتمنى لنفسي ألا اكتب في هذا الموضوع أولاً وأخيراً. لكن المسألة ليست في أحاجي القانون ومتاهاته ودوائره وتكريساته الطائفية، بل في مضمونه الأكثر بشاعة: إلغاء الحرية الاساسية: حرية الترشح وحرية الانتخاب. في الحالتين، أنت تابع لجهة قادرة على تأمين المال والنفوذ. وفي مثل هذا “القانون”، يسقط سلفاً كل من لا يلوذ بتبعية واضحة ووصولية انتهازية أكثر وضوحاً وتحدياً لك.
لعلك لاحظت – إذا تسنى لك ذلك وسط هذا الصخب وقرع الطبول – ان الغائب الوحيد في بحر الشعارات – على وزن بحر الظلمات – هو لبنان. حتى من قبيل رفع العتب، لم يعثر لنفسه على لافتة ضائعة بين اللافتات.
فقد يؤدي ذلك الى اثارة المشاعر والتسبب بالخسائر. ليس وقتها الآن. إنه عرض مذهب مذبذب للطبول والصناجات. لا وقت للتفاصيل الصغيرة. لا تزعجوا المواكب.
ولا الى بسطائه وضعفائه. ولا حتى الى شعار مكرور مجرور من تلك التي تعلق على المنطاد المعلق في سماء الجميع. لائحة الكذب والنفاق، كما سماها العلامة رئيف خوري.
يقول ستيفان زفايغ: دائماً كانت الشعارات (1) هي الاكثر شيوعاً في السياسة، لأنها بدل المناداة بالمُثل العليا، تعبر بلغة مريحة في الادراك وسهلة في التداول.
التفكير متعب. التأمل مؤلم. والتساؤل قد يحرك في الناس كل ما هو غير مجدٍ وغير مريح، من ضمير وعقل ومنطق. لذلك، تتعصب العامة وتمشي. تتعصب وتكرر. تتعصب وتعتبر ان غضبها هو الحق، وهو الحقيقة، وكل ما عداها باطل الاباطيل. ومن أجل ديمومة العصبة، تحزمها في حزب أو قبيلة أو طائفة، واخيراً، في روليت انتخابية مزينة بـ”سوبرمان” هو بمثابة “الجوكر” في اللوتو، أو في الليخة. سميت القوانين قانوناً لكي تؤكد المساواة والعدالة ورجاحة الحق إذا ما ضاع بين اقدام البشر. “القانون اللئيم” سمته مانشيت “النهار” يوم السبت الماضي.
أيضاً عن زفايغ: “في مثل هذه اللحظات المخيفة، لا يملك المرء دفعاً لإرادته. عبثاً يسعى المفكر الى الانزواء وراء فضاء التأمل، فلا يلبث الزمن ان يرغمه على الانخراط في المعمعة، يميناً أو يساراً، في هذه الزمرة أو تلك، في هذا الحزب أو ذاك. ووسط ذلك كله ما من أحد من ألوف أو ملايين المناضلين، يحتاج الى المزيد من الشجاعة والمزيد من القوة والمزيد من الحسم الاخلاقي، كمثل رجل الوسط والاعتدال الذي لا يريد أن يمنح تأييده لأي زمرة، ولا يريد ان ينساق وراء تعصب “الفكر الآحادي”.
تولّيت خلال عملي الصحافي تغطية انتخابات كثيرة في أوروبا وأميركا الشمالية. في كل تلك المعارك، كانت هناك كتلة وسطية. هناك جميع انواع الاتجاهات في معركتنا إلاّ الوسط. إلاّ الاعتدال. إلاّ التواضع الأهلي. في انتخابات 1972 هزم جان عزيز أمام ادمون رزق، الذي ذهب الى منزله فور اعلان النتائج ليقول له هذه أكبر هزائمي.
دائماً، وفي كل بلدان العالم الثالث، تكون المعارك الانتخابية حادة. بل يقع خلالها ما اصبحنا نسميه “إشكالاً”. وهو الخناق الذي يستخدم فيه الجيران الرشاشات و “الأربيجيات” . لكن خصوصية هذه المعركة الصوت الفج، وعنوانها أنها تجري على هامش الوجود. فالشغب صغير بلا مستويات وبلا عمق، فيما ينقل البطريرك الراعي عن الرئيس عون أخطر كلام في تاريخ الجمهورية، وهو ان البلد “مفلس” وعلى الحضيض.
كم هو عدد الذين لم يعرفوا النوم تلك الليلة؟ فالذي يقول هذا الكلام، والذي يعلنه، ليسا من أهل السياسة، بل من حرس الوطن. والرئيس يرى عادة ما لا يراه السياسيون، أو العامة. وعلى رغم معرفته بوقع مثل هذا الكلام، يرى نفسه مضطراً الى أن يقوله. “لمن تعلق هذه اللافتات إذن”؟ على مدى البلد، وجوه جميعها ضاحكة، من غير أن تدري ما هو السبب. أو ما إذا كان هناك سبب واحد يدعو الى مثل هذه الابتهاجات المعلقة.
لم يكن الانقسام بين الذين يملكون والذين لا يملكون عميقاً ووسيعاً الى هذا الحد. انتصرت أثينا على إسبارطة لتكتشف أنها مهزومة في نفسها. لقد وقعت في قبضة طبقة من الاوليغارشية المصابة بداء سماه حكماء الاغارقة “الجشع المرضي للمزيد” أو ال بلييونثكسيا”: المزيد من الاملاك، والمزيد من الدعاية، والمزيد من مظاهر الأبهة. وقال أرسطو إن ثمة نوعاً من هؤلاء يؤمن في داخله بأن الغطرسة حق والتكبر فضيلة، ولذا، لن يكلف نفسه عناء البحث عن طريق للمساعدة.
المسافرون الى دبي في الايام الاخيرة وجدوا على جوازاتهم ختم السعادة. مرة قال لي محمد بن راشد – ونقلتها هنا من قبل – أعرف الحاكم الذي يحب شعبه من الذي لا يحب إلاّ نفسه، من لحظة وصولي الى المطار: هل البلاط نظيف أم مهمل. البلد الذي ليست الناس فيه هماّ هو بلد بائس.
تطلع حولك بسرعة. إنها معركة أو حرب جماعة الـ “الجشع المرضي للمزيد” أو ال “بلييونثكسيا” . متهافتون لا يرون في الناس أكثر من صوت تفضيلي. أو فاصلة في “الحاصل”. حرب بين أغنياء ومن أجلهم. ويحزنني جداً يا عزيزي ان اذكّرك بقول بول فاليري، هو، على الأقل، كانت له فرنسا، حيث لا يزال الضابط النبيل يبادل نفسه بالرهينة ويموت عنها. تباً لكِ يا كاركاسون، ايتها المدينة الخبيثة، أرض الرياح التي لا تنام والارهاب اللئيم.
(1) ستيفان زفايغ – ايرازموس، الانتصار والانكسار، دار الفرات،
النص العربي بقلم فارس يواكيم.