04 01 كانون الثاني 2017
ودّعنا، مع وداع السنة، صديقة عزيزة هي التي اعطينا اسمها، ابنتنا ماريا. ومثل كل وداع اخير، كان خاصاً وحميمياً من عائلة واصدقاء. لكن وداع ماريا رجا صيداوي، بدا مثل مشهد مضاد لما هو سائد في عالم اليوم: صورة مثيرة للغرباء الذين تحولهم شريعة الحياة إلى قربى. لم أقم مرة بزيارة الرئيس ميشال سليمان إلا وأفاض في الحديث عن قضية اثيرة عنده: بعد عقدين، أو اكثر قليلاً، لن تعود باريس مدينة فرنسية، أو لندن مدينة بريطانية. ثمة عالم مختلط يتشكل من تلقاء نفسه.
اللوحة أمامنا في كنيسة سان بول دو فانس، شفيع الاودية وحقول الخزامى، كانت بالوان الغربة التي تتحول وطناً للأجيال الآتية. ولدت ماريا غراف في فيينا، وتزوجت من الدمشقي رجا صياوي في بيروت، وفيها رزقا الإبنة الأولى، لارا. أما تانيا، الإبنة الثانية، فولدت في لندن، لأن العائلة تركت لبنان العام 1975. درست الابنتان لاحقاً في نيويورك، وتزوجت لارا من كريستيان روجر مور، وتانيا من رجل الاعمال اليوناني تيبو روماندوس.
ادى كاهن سان بول الصلاة بالفرنسية، وقرئت رسائل ماريا إلى اصدقائها بالانكليزية، ورددت الجوقة المرتلة، اغنية “زنبق النمسا وتلال سالزبورغ، “ايدل فايس”، باللغة الالمانية. ورافقت الصلاة، في خفوت، اغاني “صوت الموسيقى”، لأن ماريا أوصت بأن تكون الدمع الوحيد الذي يذرف عليها. وبناء على الوصية رافقتها الموسيقى إلى أن أودعت مقامها الجديد، المطل على وادي الخزامى.
قبل أيام قليلة، كان انيس العامري قد أعلن رفضه لكل هذا، في بيان كتبه بعجلات شاحنة سرقها وقتل سائقها فوق أجساد مجموعة من البسطاء، جاءوا يفرحون في أحد أسواق الميلاد، جميعهم، كانوا يعتقدون في داخلهم، أنهم في حماية أنغيلا ميركل. فمن يمكن أن يكافىء الأم ميركل، التي احتضنت مليون لاجىء، إلا بالوفاء، وقالب من الحلوى، يُشترى من هذه السوق البسيطة بالذات. لم تُرزق أنغيلا أبناء من زواجها، فقررت أن تتبنى الفازعين إلى المانيا.
لم تتوقف طويلاً عند الذين اقدموا في الميلاد الماضي على اغتصاب الالمانيات في برلين وكولونيا. ولا توقفت عند وحوش تويتر الذين دافعوا عن “اللاجئين”. الشعوب المتحضرة لا ترى في التفاهات المريضة مقياساً لمعاملة الشعوب المنكوبة بمثل هذه الظواهر العقيمة العقول، والقلوب الكارهة كل شيء وكل أحد.
لكي تنجو من بحر الحقد، إذا رماك عالمك فيه، لا تحتاج إلى قلب، بل إلى عقل، إلى تفكير، إلى منطق بسيط وبديهيات إنسانية. يميز البشر هذا الفارق الضئيل، البسيط، والشديد العلو. الفارق ما بين محمد البوعزيزي، الذي أحرق نفسه لأنه لم يعد قادراً على اعالة امه، وانيس العامري، الذي كان يَعِدُ أمه بالخبز، لأنه يتاجر بالمخدرات على ارصفة برلين. تونسيان من بلاد بورقيبة، أول زعيم عربي يفرض، بعد الاستقلال، التعليم والعمل. لا مكان للبطالة ولا للجهل. “بوعزيزي كان يحمل الليسانس، وكان يرفض أن يكون بلا عمل. العامري لم يعمل شيئاً في حياته. اراد أن تأتي الدنيا إليه في لفة حشيش، أو أن يذهب هو إلى الجنة في شاحنة لها ست عجلات، مخضوضبة بدماء أهل المدينة التي احتضنت عشرات الآلاف من رفاقه ومواطنيه.
لم يتكون هذا العالم من أجل أن يكون تحت رحمة الحاقدين. “ولو شاء ربك لجعلكم أمة واحدة”. لكنه شاء ان تكونوا أعراقاً وألواناً وأمماً ولغات وثقافات وعادات تنصهر في الأرض. اختارت ماريا صيداوي لوداعها حكاية “صوت الموسيقى”: انتصار الاطفال على الفاشية. انتصار الكولونيل النبيل فون تراب على موجة العمى الصارخ الهاجمة على النمسا… وفي أواخر ايامها كانت تزداد اقتناعاً، امام مشاهد الرعب الهاجمة على البشر في كل مكان، بأن الفوز لن يكون إلا للمرهقين والبسطاء.
“صوت الموسيقى” في سالزبورغ، كان حكاية الوقوف ضد الوحش في الناس، ومع الضعف البشري، ومع فتح أبواب اللجوء عندما تُقرع، من دون السؤال عن السبب أو عن الهوية. صحيح أنها قصة واقعية عن بداية الفاشية في النمسا، لكن الرمز أكبر من الواقع، لأنه يتنقل من زمن إلى زمن، ومن مكان إلى مكان. والفاشية التي تمتد في العالم اليوم، في شاحنة مسروقة، أو طائرة مخطوفة، أو “تغريدة” معتلة، هي تكرار لظواهر وطواعين ضربت البشرية مراراً، ودائماً كانت الكوارث التي يحركها عقم البشر، أكثر فظاعة وضحايا وقسوة من هبوب الاعاصير أو جنون الزلازل.
المشهد في كنيسة سان بول دو فانس، غداة شاحنة أنيس العامري في برلين، كان لوحة رمزية لعام يخرج منا وعام ندلف إليه. ولعالم يصارعنا وعالم نصارعه. الأم ميركل والسيد ترامب. واحدة تتحمل أن تشرّع الابواب ولو دخل منها أمثال العامري، وواحد يريد أن يبني جداراً في وجوه الفقراء القادمين من الجوار، وأن يمنع دخول المسلمين، وسيدة تدعوهم إليها جميعاً، من دون هويات يُذبحون بسببها، أو تُسبى نساؤهم، أو يُبعن في السوق بعد التناوب عليهنّ أمام ابنائهن.
يريد دونالد ترامب ان يغلق بلداً قيمته الكبرى في الوجود وفي الأمم، بوابته. عنوانه جزيرة “ايليس” التي يصل إليها المهاجرون من دون “أوراق ثبوتية”، من دون مهنة ومن دون عنوان سابق أو لاحق. هكذا وصل اليها جبران، ووالد أوباما، وأم جون كيري، وجد دونالد ترامب، الاسكوتلندي الذي قيل إنه تاجر باشياء كثيرة. لكن “الإنسان لا يعيَّر حتى بأمه” كانوا يقولون في الضيعة.
لا ينفع القول إن الهمجيات العالقة في حاجة إلى مواجهين من طبيعة ترامب وبرامجه. العالم في حاجة إلى مزيد من الأم تيريزا، والأم ميركل، والأب بيار، والمهندس محمد يونس وسائر أصحاب القيم البشرية. اسمحوا لي ان نضم إلى هذه السلسة، على حجمنا، ميشال اده، الذي لم تُبلّد قلبه السياسة، ولم تحجّره السلطة ، فظل عمله الأول، عمل الخير واسعاف المحتاجين والمتعبين.
قرأت في “الوثائق العربية” (مجلد 1977) مقابلة مطوّلة في جريدة “العمل” مع الرئيس شارل حلو حول “اتفاق القاهرة”. كانت الاسئلة شديدة الوضوح، والاجوبة شديدة الفخامة، كثيرة البلاغة، كثيرة الديبلوماسية، شديدة الزئبقية. وفارغة. لا شيء. دفاع هزيل في تهمة كبرى. وبعدها أصدر الرئيس حلو كتاباً (دار “النهار”) غلفه في طابع سيرة ذاتية، لكي يدافع فيه عن ضعفه وضعف لبنان حيال الاتفاق الذي عرّى البلد من خُلقه وحرمته. وكان الدفاع هزيلاً وجميلاً وخاوياً. وبعد الرئاسة أمضى العمر في ما هو أهم منها: رعاية “مطاعم المحبة” للفقراء الذين لا يملكون ثمن عشاء. وقد تولى ميشال اده دعم هذه المؤسسة مع الرئيس حلو، وبعده.
ويجب ألا تمر هذه المناسبة من غير أن يُحيّي ميشال اده الذين يعرفون. والذين لا يعرفونه. وفي زمن الفساد والفِسق والجشع الرهيب، ثمة اضاءات قليلة، يؤسفني أننا لا نعرفها جميعاً، لكن، بالتأكيد، نموذجها ميشال اده.
العالم ليس في حاجة إلى مزيد ممن يغلقون الابواب. في حاجة إلى ابراهام لينكولن يخوض حرباً أهلية من أجل الإنسان الذي فيه. في حاجة إلى أنغيلا ميركل تعلن أن المانيا للجميع، وليست “فوق الجميع”. ليست فوق أحد. ما من أحد فوق أحد. “الغرباء” الوحيدون في وداع ماريا صيداوي كنَّ معلمات المدرسة التي كانت هي ترعى المعوزات من طلابها الصغار. وهؤلاء بلا هويات وبلا أهل. لكنهم كانوا يرتلون في الكنيسة أشياء من “صوت الموسيقى”، ثم يصعِّدون “آفي ماريا”، معتقدين في مخيلتهم الجميلة والنقية، ان ماريا التي يلقون عليها التحية، هي السيدة التي يودعون.
أنا كنت ازداد معرفة بمريم وانا اقرأ في “المصري اليوم”، وكالعادة، مقال المفكر السلفي، ناجح ابراهيم حول الميلاد بدأه بالآية: “إذ قالتِ الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين”.
هناك عالمان: ناجح ابراهيم والعامري. ميركل وترامب. ميشال اده وذوو النفوس الحقيرة من أغنياء المسيحيين. العقلاء النبلاء. والفالتون يغرفون من مستنقعات هذا العالم.
69 تعليقات
تعقيبات: 1calculation
تعقيبات: writing the dissertation
تعقيبات: dissertation structure
تعقيبات: research writing help
تعقيبات: thesis defense
تعقيبات: write my dissertation
تعقيبات: mathematics dissertation help
تعقيبات: help with dissertation
تعقيبات: custom dissertation writing services
تعقيبات: uk dissertation help
تعقيبات: need help with dissertation
تعقيبات: real money casino online
تعقيبات: golden nugget online casino promotions
تعقيبات: wind creek online casino real money
تعقيبات: borgota casino online
تعقيبات: foxwoods online casino promo code
تعقيبات: ocean online casino
تعقيبات: winstar online social casino
تعقيبات: casino online pa
تعقيبات: online casino games win real money
تعقيبات: caesars casino online
تعقيبات: vpn client
تعقيبات: is vpn free
تعقيبات: best free vpn 2022
تعقيبات: free chrome vpn
تعقيبات: totally free dating site
تعقيبات: senior dating site
تعقيبات: free web girl
تعقيبات: online dating service
تعقيبات: dating team
تعقيبات: raluka
تعقيبات: dating online chat and meet
تعقيبات: dating flirt site free
تعقيبات: single women phone numbers
تعقيبات: 100 free chat and dating for adults free
تعقيبات: free dating websites singles
تعقيبات: river belle online casino
تعقيبات: free online casino slot machines
تعقيبات: gay chat rooms phoenix
تعقيبات: in gay chat what is an otter?
تعقيبات: local gay chat
تعقيبات: live gay chat room
تعقيبات: gay chat room atlanta
تعقيبات: boomerang gay chat
تعقيبات: gay male cam chat
تعقيبات: gay mens chat
تعقيبات: older gay chat
تعقيبات: gay chat no registration
تعقيبات: fre gay chat
تعقيبات: who can write my paper for me
تعقيبات: write my paper reviews
تعقيبات: college papers help
تعقيبات: college paper writing service
تعقيبات: where to buy writing paper
تعقيبات: order custom paper
تعقيبات: paper writing company
تعقيبات: buy school papers
تعقيبات: write my paper fast
تعقيبات: 2destroyed
تعقيبات: coursework in english
تعقيبات: buy coursework
تعقيبات: coursework writer uk
تعقيبات: coursework online
تعقيبات: design coursework
تعقيبات: online dating single
تعقيبات: farmersonly
تعقيبات: free date
تعقيبات: internet dating services
تعقيبات: free dating sites without registering