
صناعة الصدف واحدة من الصناعات التراثية القديمة في لبنان، وهي عبارة عن «قواقع» بحرية يتم استخراجها من البحار، ثم تزال القشور الموجودة على سطح الصدف، وبعدها يتم العمل على قصه بواسطة مواكن خاصة وتشكليه بطرق مختلفة، ليتم استخدامه في صناعة التحف والمزينات. وبرع الفنانون في عرض المصنوعات الصدفية بطريقة جميلة، وعملوا على الحفاظ عليها وعدم انقراضها رغم الحروب والانهيار الذي تعرض ويتعرض له لبنان حتى يومنا هذا.
واشتهرت مدن صور وصيدا وبيروت وجونية وجبيل وطرابلس اللبنانية عبر التاريخ بصناعة الصدف وتزيين الأواني والأثاث المنزلي وصناعة التحف وحلي النساء، ما أدخل هذه الصناعة اليدوية في كل بيت لبنان وصارت مقصدا للسياح والزائرين من البلاد العربية والأجنبية.
يقول عماد سرور أحد الحرفيين في مدينة صور جنوب لبنان، إن صناعة الصدف عملية شاقة ومتعبة وتتطلب الوقت والجهد، لكنها أيضا مهنة مربحة وهواية ممتعة.
وأضاف لـ«القدس العربي» نمضي وقتا طويلا على شاطئ البحر نجمع الصدف، وقال «الصدف هو عبارة عن قشور حيوانات أو قواقع بحرية تستخرج من البحار ومنها بيت اللؤلؤ، وأبرز أنواع الصدف هو صدف المحار، وصدف عين الديك».
يتميز الصدف كما يقول سرور بألوانه المتعددة التي تمثل ألوان الطيف وهو أغلى أنواع الصدف على الشواطئ البحرية في لبنان.
«بعد استخراج الصدف من البحار وجمعها عند الشواطئ، تأتي مرحلة إعدادها لكي تصل إلى الشخص المزخرف جاهزة، لكي يقوم بدوره بعمله الفني، وهناك العديد من الورش التي تتولى عمليتي الإعداد والزخرفة».
تسمى أول عملية تلي استخراج الصدف، عملية «الصنفرة» وذلك إلى أن يصبح ملمسه ناعما ثم تقطيعه إلى شرائح رفيعة تسمى الواحدة منها «مبرزة» يصل سمكها إلى 2 أو 3 ملم، ثم توضع إلى القطع المطلوبة بأشكال معينة حسب التصميم الذي يسعى المزخرف إلى تزيينه.
وتعد المرحلة السابقة من الأصعب، فعملية تقطيع الصدف، من أدق العمليات في هذه المهنة وتحتاج إلى خبرة ومجهود، كي تتم بالشكل المطلوب، فالصدفة الواحدة تحتاج إلى وقت طويل لكي تصل إلى الشكل الذي يرغبه المزين، بينما يمكن للقطعة الكاملة التي يعمل المزين على تزيينها تأخذ 3 أو 5 أيام من الوقت لكي تأخذ شكلها النهائي.
من يزور مدينة صيدا جنوب بيروت، يلاحظ تنامي حرفة صناعة الصدف، كما يلاحظ محلات ومعارض داخل الأزقة القديمة ومقابل القلعة البحرية.
فقد اشتهر سكان المدينة بصناعة الصدف منذ عقود طويلة، واعتمد بعض الحرفيين تجميع الأصداف عن شاطئ البحر بهدف تصنيعها وحفرها ونقشها وصناعة أدوات مختلفة من أساور وعقود وعلب وغيرها، تجذب المارة.
على بَسطة متواضعة، قبالة ميناء الصيّادين المجاور للقلعة البحرية في صيدا، يعرض ابو محمد حازم منتوجاته من التي تحوّلت إلى تحف وزينة ومجسّمات تلفت انتباه المارة، كما السيّاح العرب والأجانب الذين يزورون القلعة البحرية وخان الافرنج والأسواق القديمة، فيقبلون على شرائها كتذكار من لبنان.
حازم الذي لم يحترف الغطس يحصل على أصدافه من خلال البحث عنها على شاطئ البحر، خصوصا بعد العواصف ورياح الشتاء، ويشتري بعضها من صيّادي الأسماك التي تعلق في شباكهم حينا، ومن بعض الغطاسين الذين يمارسون هواية السباحة على الشواطئ الممتدة من صيدا إلى صور بَحثا عن أنواع مختلفة من الأصداف أحيانا، قبل ان يحوّلها جميعا بأنامله المبدعة إلى عقود وأساور وتحف متعددة الأشكال، ويعرضها للبيع.
يقول حازم، الذي يقيم في أحياء صيدا القديمة، «أقوم بتنظيف الصدفة أوّلا من الأوساخ وأزيل أي شوائب عنها، ثم أرسم عليها بعض الأشكال الفنية أو أكتب عبارات الجلالة أو أحرف الأسماء أو الأبراج، أو أحفر عليها عبارات. تلامس الثريّات التي تتدلى من سقف البسطة، عشرات الأساور والعقود المتعددة الأشكال والأحجام والتي تناسب جميع الاعمار، ناهيك عن صدفيات بحرية مثل الأسفنج الأحمر والأبيض، صغيرة وكبيرة، وقد أدخلت إلى بعضها الإنارة للدلالة على روعتها وجمالها ورونقها».
ويخصص حازم جزءا من عمله لمساعدة أمثاله من الطبقات الشعبية، وهذا أمر يرضيه تماما، فهو يعرض منتوجات صبايا يعملن في المنازل ولم يجدن فرص عمل، أو مقعدين احترفوا الرسم على الأصداف أو صناعة مجسّمات لسفن بحرية، يبيعها لهم على بسطته من دون أي مقابل، يقول: «أشعر بضيق الناس، وأنا في الأساس أعانيه، إذ انه في فصل الشتاء تخفّ حركة السيّاح ويقلّ البيع، فاضطر في بعض الأحيان إلى العمل في معمل للسكاكر كي أؤمن قوت عائلتي المؤلفة من الزوجة وخمسة أولاد، في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة والغلاء وارتفاع الأسعار، فهذه المهنة تكفي الإنسان خلال فصل الصيف فقط». وإذ أكّد انه قليل المشاركة في المعارض الحرفية بسبب التعب، دق ناقوس الخطر على مهنة نحت الأصداف التي باتت اليوم مهددة بالاندثار والانقراض، وطالبَ المسؤولين اللبنانيين بدعمها وتشجيع أصحابها، بحيث يتم إنشاء معهد أو مركز للتدريب، وهي في كل الأحوال فن راق ومهنة لا تحتاج الاّ إلى إرادة وذوق.
وأشار حازم إلى أن صناعة الأشغال الصدفية مهنة عرفتها مدينة صيدا كما عرفتها المدن اللبنانية صور وبيروت وجونية وجبيل وطرابلس منذ عقود، نتيجة علاقة هذه المدن التاريخية مع البحر وصيّاديها، ولكنها اليوم وبسبب حالة الانهيار والأزمات، باتت من المهن التي يحافظ عليها البعض برموش العيون.
ويبرز الفنان نبيل خاسكية داخل محترفه في صيدا القديمة إلى جانب حازم الذي يقول: «منذ 20 عاما وانا أقف هنا، أصنع وأعرض وأبيع هذه المصنوعات اليدوية، أكسب قوت يومي بعرق جبيني وقد أصبح لديّ زبائن، لأن التشكيلة المعروضة تعجب مختلف الأذواق ويقبل على شرائها السيّاح كتذكار من لبنان، أو تكون هدية من شخص إلى آخر، أو زينة في المنزل، إذ ان كثيرا من الصيداويين يرون في الصدف فأل خير وسعادة».
ولا يتوَرّع خاسكية بين الحين والآخر عن إدخال موضة جديدة أو ابتكار حديث، وآخرها سمكة بلاستيكية يرصّعها بالأصداف، أو سجادة حائط تعلق في صدر الصالون وهي تلقى رواجا، أو صدفة صغيرة حفر قلبها ووضع فيه القرآن الكريم أو الانجيل المقدس، ويحرص الكثيرون على شرائها واقتنائها بهدف التبرّك وطرد الشَر.
وفي طرابلس شمال لبنان العديد من أبناء المدينة يعملون في صناعة الصدف، تعلمها البعض من والده أو جده، وابن طرابلس، أحب البحر كثيراً منذ صغره فوقع في عشق أصدافه وقواقعه وبدأ يجمعها ليحولها إلى تحف فنية مشغولة بعناية وإتقان تعكس مدى شغفه بهذه الحرفة اليدوية التي تمارسها الأجيال جيلا بعد جيل، لذلك تعود صناعة الأعمال اليدوية من الصدف في مدينة طرابلس إلى عقود من الزمن، نتيجة علاقة المدينة المتواصلة مع البحر وصياديها.
ومن مشغله الصغير في أحد أحياء طرابلس، ورغم جميع الظروف المحيطة به، ما زال أسعد يتمسك بقشّة الأمل للوصول إلى شاطئ الأمان بهدف حماية مهنته التي أصبحت نادرة و«مهدّدة بالانقراض» ورغم أن المشغل الذي لا يتجاوز طوله المترين، يبدو متهالكاً، غير أنه يعتبره «مصنع أفكاره» حيث يطلق العنان لمخيلته ليصنع تحفاً فنياً متعددة الأحجام والأشكال ويعرضها في متجره الملاصق لمشغله.
يتمتع أسعد بحس فني عالي، إذ يمسك بين يديه علبة من الخشب ويلصق عليها مجموعة أصداف، فتتحوّل من مجرّد «علبة خشبية» إلى «تحفة فنية» تزين المنازل والمكاتب.
لكن قيمة تحفه الفنية، انخفضت كثيراً بسبب انهيار العملة اللبنانية أمام الدولار وتراجع أعداد السياح الأجانب الذي كان يمرون بجانب متجره، وكان يعوّل عليهم لكسب رزقه خاصة أنهم من «أكثر المتحمسين لهذه القطع الفنية المستوحاة من التراث الشرقي المزخرف بالصدف» محذراً من اندثار هذه الحرفة القديمة.
صناعة الصدف بالنسبة لأسعد ليست فقط مهنة يكسب منها رزقه، فهو يسعى من خلال أعماله الفنية إلى الحفاظ على تراث الأجداد والآباء كإرثٍ تاريخي للمدينة القديمة.
مجالات الإنتاج في لبنان تراجعت وتوقفت وتعرضت للانهيار، البعض يهرب من هذا الواقع بـ«قوارب الموت» لعله يصل بلدا يؤمن فيه لقمة عيش، وبعض آخر ما زال يتمسك بمهنة صناعة الصدف ليس فقط لأنها هواية وحركة إبداعية فحسب، بل لأنها مصدر رزق من خلالها يمكن تأمين لقمة عيش لأولاده، لذلك صناعة الصدف كغيرها من المهن والحرف أصبحت بتراجع واضح ومعرضة للإندثار، لكن هناك من هو مصمم ويقاوم من أجل البقاء واستمرار هذه الحرفة التاريخية.