الرئيسية / home slide / شوال من الملح

شوال من الملح

حيدر المحسن
القدس العربي
24032023

هو الشاب الوحيد الذي كان يمتلك مسدسا في حينا، وكان وحيد أبويه، ومدللا، وصارت تحيط باسمه الغريب «جَوْهَر» الكردي الأصل، أو التركماني، هالة تتسع سنة بعد أخرى، في حي بستان عائشة في مدينة العمارة في السبعينيات. في ذلك اليوم كان جوهر يشرح لأخي مهدي طريقة استعمال المسدس، ويحاول تعليمه كيف يرمي به عدوا، أطلق أخي رصاصةً فأصابتْ ساقَ صديقه. لم يتألم جوهر، ولم ينزف دما، وعندما حضر الشرطة ادعى أنه كان ينظف السلاح فأصاب نفسه خطأً، وشُفيَ جرحُه في أقل من أسبوع. يقول غوته: «لا يمكن تصور صداقة دون تضحية». انتقلت عائلة الشاب إلى كركوك أو أربيل، أو ربما إلى إيران أو تركيا.. وسكنت الدار التي صارت نقطة دلالة منذ تلك الحادثة عوائل عديدة، لكنها ظلت تُعرف باسم الشاب: (دار جوهر). يقول فؤاد التكرلي في إحدى قصصه: «أنت ذو حظ عظيم لو كان لديك صديق يفتديك بنفسه». لا يختلف الصديق عن الشخص العادي في شيء، أي أنه بشر طبيعي في كل صفاته، وليس ثمة سمة على وجهه تدل عليه، ورغم ذلك يقدم هذا الرجل أو المرأة نفسه ونفسها قربانا لك. فكيف نفسر الأمر؟
الصحافي: ماذا عن أصدقائك؟ وأي دور يلعبونه في حياتك؟
ماركيز: بعض أصدقائي سقطوا على الطريق، إلا أن الأصدقاء الأكثر أهمية قاوموا كل أنواع التغيرات المستجدة. عندما يسقط شخص قريب منك بمحض إرادته لا تستطيع مساعدته على مواصلة الطريق، وهذا جزء مهم من فن الصداقة لا يمكن الاستغناء عنه. لقد دأبت طوال حياتي على تعزيز صداقاتي، مهما كانت الظروف.
الصحافي: كيف يمكنك تعريف الصداقة؟
ماركيز: هنالك الكثير من الكلام الذي قيل في هذا الخصوص، وبالنسبة إلي فإن الوقت الوحيد الذي أشعر فيه بنفسي هو عندما أكون مع صديقي.
انتهى كلام العبقري، ونفهم منه أن كل شيء في الوجود يزداد نأْيا وضبابية عندما تجتمع مع خِلكَ، وتمر عليكما ساعات تعلن فيها الروح عن لا انتمائها إلى الوجود، إلا في ما يخص الصديق. بالنسبة إلى بيكاسو، فإن صديقك هو من تأمنه في أثناء نومك، كأن ترقد بجواره أو في بيته، أو تجمعكما غرفة واحدة، وقلتُ مرةً إن صديقك هو من تجلس معه، تتحدثان قليلا، ثم يشملكما صمتٌ بليغ سحري لبعض الوقت، وتشعران عندها كأن الصمت لا يلفكما وحدكما، بل المدينة كلها، والعالم والكون، وهذا هو سر الصداقة الأعمق، فلا داعي للتوسل إلى صندوق الكلام في سبيل إنقاذ الموقف. يقول الشاعر أنطونيو بورشيا: «لا تكلمني. أريدُ أن أكون معك».
في نوع من العزاء كان بدر شاكر السياب يواسي نفسه على فراش الموت: «صحيح أن عمري ليس طويلا فلم أبلغ الأربعين بعد، لكني صادقت الشعراء العرب في مختلف العهود، وقرأت الشعر الإنكليزي والفرنسي والروسي والألماني، وكذلك النثر، فماذا أريد أكثر من ذلك؟». الصداقة إذن تشبه التجربة الأدبية والفنية، ويشترط نجاحها على إبداع الصديقَين وتفانيهما من أجل أن يكون كل ما مر بهما خالدا، والأدب العظيم ما هو إلا صداقة دائمة لا تبدلها الظروف.
الطيور على أشكالها تقع، أما بنو الإنسان فإن هناك عادة تفكير تقرب أحدهم من الآخر، وآفاق أحلام توحد كل مجموعة منهم. وما يجمع الصحاب في سن الشباب ويشد بينهم أيضا الغرور ونقاط الضعف والإحساس بفقدان الطمأنينة، لعل الصداقة العميقة تقدم لهم الحل، فالحياة وتجارب السنين لا تقدم لنا غير الحيرة تجاه العُقد التي تزداد في حياتنا سنة بعد أخرى، ثم تشرع في الانحدار بعد الخمسين، ولهذا تقل صداقاتنا عند تقدمنا في العمر، فأكثرية المشاكل الداخلية مع النفس تكون قد حُلت بعد الستين، أو في طريقها إلى ذلك. كان أرسطو يقول إن الطموح إلى الصداقة عمل سريع، أما الآصرة الحقيقية والقوية بين اثنين فهي مثل الثمرة الناضجة، تحتاج إلى الكثير من الشمس والماء والملح الذائب في التراب، وتحتاج خصوصا إلى المزيد من الصبر. يقول المعلم الأول: «إن المرء لا يعرف رفيقه جيدا إلا بعد أن يأكلا شوالا كاملا من الملح».
لست مع من قال (وهو ألبير كامو): «صديقك هو من تبحث عنه في عز حاجتك إليه فلا تجِدُه» بل الأصح أنه يمشي إليكَ عندما يبتعد عنك باقي العالم، كما أن الصداقة هي كينونة ثانية، وكلما تعددت النفس صارت أقوى على صروف الزمان وتقلبات الدهر.

إن شوال الملح الذي يذكره أرسطو لا يعرف الصديق حسب، وإنما يفرش الطريق له إلى أن يكون خالدا فينا، وأخو ثقتكَ لا يموت أو ينتهي فيك طالما كانت تجري فيك أنساغ الحياة.

أما أروع ما قيل في هذا الباب فهو لأديبنا البصري محمد خضير: «الوطن هو إطار الصداقات العظيمة» وهذا تعريف جديد للوطن قاله صاحب تحفة «المملكة السوداء» في ثمانينيات القرن الماضي، وأثبتت السنين صحة ما أراد، ففي عالم اليوم نرى الحدود تكاد تختفي بين الأمم، ويتكون عالم جديد تصنعه الصداقات العظيمة بواسطة منافذ التواصل الاجتماعي. لا فرق بين عربي وآسيوي وافريقي ومكسيكي إلا بالإخلاص للعلاقة التي تجمع بينهما، والوفاء لها وتقديم التضحية إن تطلب الأمر ذلك، وتعدى أمر ما يجري بيننا بواسطة هذا الطريق إلى أن تنشأ علاقة حُب يتوجها الرباط المقدس. البيت هو وطن صغير، والوطن الآن غيره في العقود الخوالي، وإلا ماذا نسمي منزلا يضم فتى مراكشيا وفتاة عمارية – نسبة إلى بلدة العِمارة؟ وربما يحل علينا عصرٌ تصيرُ فيه الأوطان مُشاعة بين الجميع، وهي المدينة الفاضلة التي كانت حُلُمَ الفلاسفة، وإذا بها، بواسطة شوال من الملح، تكون حقيقة واقعة.
وهل يوجد مقام لا نعثر فيه على أثر قدم شاعر الأرجنتين، وشاعرنا؟ يقول بورخيس: «بالطريقة نفسها التي يعتقد فيها المرء نفسه مخلدا أو يحس ذاته مؤبدا، فإنه يتصور أن أصدقاءه يكونون كذلك» ولشرح ما يعنيه أذكركم بقصة قصيرة ضمها كتابه «الصانع» عنوانها «حوار على حوار» حيث يدور الكلام بين اثنين هما بورخيس وصديقه الروائي ماسيدونيو فرنانديز، وكانا يفكران في أثناء ذلك بخلود روحَيهما، وتركا الغسق يهبط دون أن يشعل أحدهما المصباح. ظل ماسيدونيو يكرر أن النفس خالدة «وكان لا اكتراث وعذوبة صوته أكثر إقناعا مما عليه الوهج». كان بورخيس يعبث في تلك الوهلة بمدية صديقه، يفتحها ويغلقها. ويقترح عليه الانتحار، كي «نمضي في نقاشنا دون عناء». بعد سنين من تلك الجلسة، وكان ماسيدونيو قد انتقل إلى الدار الآخرة منذ زمان، يحكي بورخيس ما حدث لأحد معارفه، ويسأله هذا (مازحا): لكنني أشك في أنكما في النهاية قررتما أن تنتحرا. ويجيبه بورخيس (بصوفية تماما): في الحقيقة لست أذكر إن كنا انتحرنا تلك الليلة أم لا. إنه لا يفرق بين موت صديقه وبقائه حيا طالما كان يعيش في وجدانه، كما أن موت صديقكَ يعني أن قسما كبيرا منكَ فارقك، وأخذه خِلكَ معه إلى مستقره في القبر. ألا يذكرنا ما مرّ ببيت شِعر المتنبي الشهير:
«لولا مفارقة الأحباب ما وجدتْ / لها المنايا إلى أرواحِنا سُبُلا»
إن شوال الملح الذي يذكره أرسطو لا يعرف الصديق حسب، وإنما يفرش الطريق له إلى أن يكون خالدا فينا، وأخو ثقتكَ لا يموت أو ينتهي فيك طالما كانت تجري فيك أنساغ الحياة. إنه يعيش معك في النوم واليقظة، ويصحبك في السفر، ويحمل عنك الألم والمعاناة. الصداقة إذن هي كينونة ثانية، وهذا أبسط وأشمل تعريف لها، والدليل على صحة الأمر ما يحصل بين صديق وصديقه عندما يمر أحدهما بأزمة خطيرة، وأحدهما بعيد عن الآخر آلاف الأميال، لكن شعورا خاصا يجمع بين الاثنين. في رواية «زوربا» يُرينا نيكوس كازنتزاكيس ما جرى بين «الرئيس» وصديقه «ستافريداكي» وكيف شَعرَ الأول بعذاب الثاني رغم أنهما كانا يسكنان بلدين بعيدين عن بعضهما، وقد شرحتُ هذا بالتفصيل في مقالي «لغة الزهور» المنشور في «القدس العربي» ويمكن العودة إليه في أرشيف مقالاتي في الصحيفة.
في الثمانينيات، وعندما فارق الحياة الشاعر علي بندر، بلغني ما جرى له في الوقت نفسه، رغم أني كنتُ في ذلك الوقت أسكن في جنوب البلاد، وصار الحادث في الشمال، ولم يكن بيننا هاتفٌ أو رسول وما شابه. لا بد من أن يُسمع صياحُ القلب إن كان ما يقوله صِدقا خالصا، ولا يهم مقدار المسافة، وقد لاحظتُ أمرا مشابها يحدث بين الأعداء كذلك، فإن أحدهما يعرف ما يقوله عدوه في سِره، وتفسير هذا أن العداوة عاطفة قوية هي الأخرى، وتسكن القلب في النصف الآخر منه، أي نصفه الأزرق، وعندما يتكلم الفؤاد فإن صدى ما يقول سوف يبلغ الآخرين وإن بعدوا عنه آلاف الأميال. هل نقول إن العداوة صداقةٌ لم تتحقق، وقد بُذل في سبيلها شوال أو شوالان من السُم، بدلا من شوال العسل والملح؟

كاتب عراقي