الرئيسية / أضواء على / شهابية فؤاد بطرس و”فلسفة العيش معاً”

شهابية فؤاد بطرس و”فلسفة العيش معاً”

النهار
10032018

نستعيد في #نهار_من_الأرشيف مقالاً كتبه سركيس نعوم في “النهار” بتاريخ 10 تشرين الأول 2016، تحت عنوان “شهابية فؤاد بطرس و”فلسفة العيش معاً”.

يحظى الرئيس الراحل فؤاد شهاب اليوم بشبه إجماع لبناني على دوره في منع “ثورة 1958” من التحول حرباً طاحنة، في حين أن الذين خلفوه ومعهم الطبقة السياسية كلها لم يقوموا بما يجب من أجل منع تحول الحرب الأهلية التي لاحت نذرها في الأفق منذ عام 1969 حرباً أهلية طاحنة ذات جوانب طائفية ووطنية وقومية ودولية. وهو يحظى أيضاً بشبه إجماع على احترامه سيادة وطنه واستقلال دولته والمحافظة على كرامتها، وفي الوقت نفسه على واقعيته. وقد تجلّى ذلك في إصراره على الإجتماع بالرئيس المصري جمال عبد الناصر في خيمة اقيمت على طرفي الحدود بين لبنان وسوريا العضو في ذلك الوقت في الجمهورية العربية المتحدة. كما تجلى في اعترافه بأن للأزمة في لبنان إلى بعدها الداخلي بعدٌ عربي، وبأن إيجاد حل لها يقتضي العمل في اتجاهين. الأول بناء دولة مؤسسات عادلة تعامل أبناءها بمساواة واحترام وتستحق ولاءهم لها. والثاني طلب مساعدة الخارج النافذ في لبنان أو في قسم مهم منه كي يتمكن من بناء هذه الدولة. كما يحظى أخيراً باجماع على نزاهته وعلى اقتناعه بتحديث الحياة السياسية بل الطبقة السياسية وبتعزيز العيش المسيحي – المسلم في لبنان الواحد.

طبعاً لم يكن للراحل الرئيس شهاب مشروع واضح ومفصل لتحقيق أهدافه الوطنية السامية، فانطلق من مبادئ عامة واقتناعات راسخة، وأعاد السياسة اللبنانية الى مرحلة الحزبين أو “الكتلتين السياسيتين” اللتين “حكمتا” لبنان قبل استقلال دولته وبعدها. فكان “النهج” الذي يضم السياسيين المؤمنين به، وكان فريق آخر يضم المعارضين له. واعتمد عليهما معاً لإحداث التغيير في البلاد. لكن النتائج لم تكن كما توقع لأسباب متنوعة.

وعندما انتُخب حاكم مصرف لبنان في 1976 الياس سركيس، تلميذ الرئيس شهاب، رئيساً للجمهورية اعتبر كثيرون وأنا منهم أن “نيو شهابية” قد بدأت تتكون وربما تضع البلاد على طريق التعافي الوطني. وكان من أركانها من أدخله شهاب عالم السياسة وزيراً ثم نائباً المحامي فؤاد بطرس. لكن أوضاعاً كثيرة كانت تغيرت في لبنان والمنطقة فعاش الإثنان معاناة شديدة القساوة، ولم ينجحا في وقف الحروب وإعادة بناء دولة المؤسسات التي بدأها شهاب. لكنهما لم يتخليا عن اقتناعاتهما الشهابية الوطنية.

طبعا لن أقدم هنا دراسة تعدّد الصفات الشهابية لمعلمي ثم صديقي الراحل فؤاد بطرس، فشهابيته كانت جزءاً من شخصيته وتفكيره من قبل أن يقرر شهاب استدعاءه للعمل معه. ولعل ذلك كان سبب انسجامهما وتبادلهما الثقة وتعاونهما في أثناء الولاية الرئاسية الشهابية الصرفة، ثم في اثناء الولاية الشهابية بالوكالة إذا جاز التعبير أيام الرئيس الراحل شارل حلو، ثم أيام النيو شهابية “السيئة الحظ” أيام الراحل الرئيس سركيس. لكنني سأذكر عدداً من مواقفه من قضايا عدة داخلية وخارجية وعدداً من ردود أفعاله على اقتراحات ومشروعات وهي التي ستؤكد شهابيته و”بطرسيته” في آن واحد. وليس في ذلك إمتهاناً للرئيس المؤسس ولا إدعاء ومحاباة لتلميذه، ولاحقا لشريكه وشريك وكلائه بعد تخليه عن السلطة، رغم الاختلاف الكبير بينه وبينهم الذي أظهرته الممارسات وخصوصاً بعد وفاة شهاب.

أولاً: كان فؤاد بطرس مؤمناً بأن لبنان المتعدد الطوائف والمذاهب والديموقراطي والمستقل لا يمكن ان يقوم ويدوم إذا لم يؤمن شعبه بفلسفة “معرفة العيش معاً”. وهو يختلف عن التعايش  والقواسم او الجوامع المشتركة. وقد مرّ لبنان باختبارات كثيرة يوم كان صغيرا مثل القائمقاميتين ثم متصرفية جبل لبنان، ويوم كبّره الانتداب الفرنسي عام 1920، ويوم استقل عام 1943، تخللتها حروب دامية أودت بحياة الآلاف وأوقعت آلاف الجرحى والمعوقين وتسببت بدمار كبير جداً. وهو الآن يعيش في خضم اختبار كبير تواكبه اختبارات وحروب في منطقته وعند أقرب جاراته إليه أو شقيقاته أي سوريا. وكان بطرس يأمل بعد انتهاء الاختبارات المشار إليها في اقتناع اللبنانيين بفلسفته “العيش معاً”، وبذلك يصبح لبنان فعلاً أنموذجا لدول المنطقة التي تشبه مشاكل معظمها مشاكل لبنان من حيث التعددية الإتنية والدينية والمذهبية ومن حيث الأنظمة الشمولية الديكتاتورية العسكرية والدينية والحزبية. ولا ينفي ذلك طبعاً واقعية الرجل أي فؤاد بطرس التي اعتبرها المتسببون في الحروب الأهلية اللبنانية وفي “جلب دببة” الخارج إلى بلادهم ثم تحولهم رهائن لها تشاؤماً. هذه الفلسفة لا تناقض الشهابية بل تعطيها مضموناً وطنياً ودولتياً وخصوصا أنها تسمح ببناء المؤسسات التي كانت من أهم انجازات فؤاد شهاب بل وبالمحافظة عليها. وهو الأمر الذي عجز عنه خلفه الراحل حلو والذي تجاهله الذين أتوا بعده إلى السلطة قبل اندلاع الحروب عام 1975 وفي اثنائها وبعد انتهائها عسكريا فقط. كانت النتيجة الانهيار العملي لـ 20 أو 22 مؤسسة اقامها شهاب بسبب الفساد والمداخلات والمحاباة والمصالح وبقاء اثنتين فقط تعملان بكثير من الكفاءة هما الجيش ومصرف لبنان. علما أن الاكتفاء بهما مؤذِ جداً لأن العاملين فيهما لبنانيون عندهم “سُوسَة” الخوف والغضب والطائفية والمذهبية والفساد. لكن قادة الأول و”قيادة” الثاني عملوا بكفاءة لحصرها وعدم انتشارها، ونجحوا حتى الآن. لكن “التفاحتّين” الجيدتيْن لا بد ان تتعفنّا إذا بقيت سائر “التفاحات” في الصندوق معفّنة. فؤاد بطرس عانى كثيراً في أثناء حكمه، إذا جاز التعبير على هذا النحو .

ثانياً: كان فؤاد بطرس المستلم الملف اللبناني – السوري يعرف أن للرئيس (الراحل) حافظ الاسد مشروعاً للبنان لا يتوافق مع سيادته واستقلاله ودولة القانون والاستقرار وأن عند اللبنانيين عدم فهم لفلسفته. فالمسلمون وأحزابهم عارضوه بشدة لإصرارهم على مشاركة متساوية في السلطة مع المسيحيين، ثم لإصرار حلفائهم العرب أي سوريا والفلسطينيين على استخدامهم لتنفيذ مخططاتهم “القومية” والاقليمية رغم التناقض في ما بينها أحيانا كثيرة. والمسيحيون عارضوه أيضاً وخوّنوه، وكادوا ينجحون في التخلص منه بعد دسّ متفجرة كبيرة في منزله دمّرت جزءاً مهماً منه. لكنه نجا لعدم معرفة واضعيها أن منزله دوبلكس أي من طبقتين. أما العرب الذين ندبوا أنفسهم لمساعدة لبنان منذ قمتي الرياض والقاهرة عام 1976 فكانت مواقفهم محيّرة وسلبية وتدفع الى الشك في النيات اللبنانية لسوريا والفلسطينيين وفي صدق حرصهم على لبنان. فأمين عام جامعة الدول العربية محمود رياض قال لبطرس بعد تولي سركيس السلطة: “إن المقاومة الفلسطينية لا تستطيع ان تتنفس إلا في لبنان ولذلك لا يمكن أن نحدّ من تحركها”. والرئيس المصري أنور السادات قال له: “فاتحني حافظ الاسد بالكونفيديرالية بين سوريا ولبنان والأردن والفلسطينيين وبرغبته في تحقيقها”. ووزير خارجيته إسماعيل فهمي أبلغه: “إن العمل جار بصورة غير رسمية لخلق جو ملائم للكونفيديرالية لدى المواطنين والأحزاب السياسية”. والسعودية اشترطت أمام بطرس أو عليه في أثناء مباحثات تطبيق اتفاق القاهرة حصول مسلمي لبنان على إصلاحات”، وأكدت “تسليمها بدور سوريا في لبنان”، وأشارت الى “أن سوريا لا تريد أجهزة لبنانية مناوئة لها”. أما الكويت فقد حمّلها بطرس بشخص أميرها الحالي الشيخ صباح الأحمد الصباح الذي كان يومها وزيراً للخارجية “مسؤولية عدم تطبيق إتفاق القاهرة وتردّي أوضاع لبنان عندما حال باسم دولته دون تطبيق اتفاق القاهرة”. وفي حينه قيل إن سوريا كانت متحمسة لتطبيقه بنفسها. لكن ما توافر لاحقاً من معلومات أكدّ انها كانت تعلن ذلك لمعرفتها أن الرئيس سركيس لن يقبل انفراد سوريا بحل مشكلة سلاح المخيمات الفلسطينية خوفاً من استخدامها ذلك للسيطرة التامة على لبنان.

ثالثاً: اعترف بطرس دائماً بضرورة التشاور مع سوريا والتعاون مع الأشقاء العرب رغم الاختلافات والشكوك. وقد صدم بذلك شخصية لبنانية مهمة سياسية – إعلامية اقترحت عليه عبر أحد مساعديه الديبلوماسيين إقامة تفاهم مع عراق صدام حسين لمواجهة الأسد في لبنان، إذ رفض هذا الأمر جملة وتفصيلاً معتبراً انه يدمر البلاد.

وبعد تسلم الرئيس أمين الجميّل سلطاته الرئاسية سمع بطرس انه ينوي بدء التفاوض مع إسرائيل. فسأل: هل تشاور مع سوريا؟ وكان الجواب الذي قدمه وزير مهم في الحكومة (تشرين الثاني 1982) لتلميذ ديبلوماسي لبطرس: “ستنسحب الجيوش الأجنبية كلها من لبنان قبل آخر السنة”. فأجابه متهكماً: “هل تعني بذلك الوحدات العسكرية الأجنبية العاملة في قوات الطوارئ الدولية جنوب لبنان”؟ ردّ الوزير: “فيك تخبّر هؤلاء أنهم بعد وقت قصير سينسحبون ولذلك “فليضبوا” أغراضهم استعداداً للرحيل”. إلا أن مستشاراً مهماً للرئيس الجميّل تابع مساعيه لإقناع “التلميذ” نفسه بالأمر فدعاه الى عشاء حضره أميركيون مهتمون وسمع منهم أن الانسحاب الأجنبي من لبنان حاصل في آخر كانون الأول. وكان العشاء في الثامن منه.

طبعاً كان بطرس يعرف بذلك ويتألم.

رابعاً: حظي بطرس بتقدير الأسد الأب واحترامه. وكان يحرص على الاجتماع به قبل كل قمة يعقدها مع الرئيس سركيس. لكنه طبعاً لم يكن يرتاح الى مواقفه ومقارباته. فالتوجه إليه كمسيحي لم يكن ينفع لأنه رغم مسيحيته كان يتصرف وطنياً وميثاقياً ولكن ليس كميثاقية هذه الأيام. والاصرار عليه لقبول أمور تمس لبنان أمناً وسيادة أو استقلالاً لم ينجح يوماً. وقد عبّر عن انزعاجه منه للرئيس سركيس في حضوره (أي بطرس). فسأله لماذا يا فؤاد؟ كان جوابه: “فخامة الرئيس انت صاحب القرار وتستطيع ان تتخذ أي قرار تريد. لكن إذا مشينا بما يطلبه سيادة الرئيس فأنا سأستقيل من الحكومة”. لم تكن علاقته بعبد الحليم خدام جيدة لكن كان فيها احترام. أما مع الرئيس الحالي بشار الأسد فقد زاره سبع مرات وبحثا في العمق أموراً كثيرة. لكن نجاحا لم يتحقق. وفي آخر اجتماع على ما قال لي بطرس: “رافقني بشار الى الباب ثم وضع يده على كتفي وقال بصوت خافت: “لا أستطيع أن أمشي بما تقترح. جماعتي لا يقبلون أو لن يقبلوا”.

أخيراً أقول: فؤاد بطرس ارستقراطي الطبع لكنه صنع نفسه بنفسه. لم يكن شعبويا وربما شعبياً لانه في أعماقه كان رجل دولة. ولبنان يحتاج رجالاً كهؤلاء. ولذلك لم يتأثر عندما سقط في الإنتخابات النيابية، ولم يحاول العودة الى مجلس النواب رغم طرح الشهيد رفيق الحريري ذلك عليه بقوله انه حصل على موافقة دمشق. ولم يشجع ابنه جورج على خوض السياسة. لكنه استمر مرجعية لزعامات لبنانية ودول أجنبية وعربية. ولعل جوابه للسفير سمير مبارك أحد تلاميذه ومساعديه عندما سأله ما هو طموحك بعد أن قمت بما قمت به للبنان يدل على معدنه، وكان: “أطمح أن أكون أميناً عاماً للأمم المتحدة”. في حين أن جواب “غريمه” السياسي في حينه على السؤال نفسه كان: “أريد أن أعمل وزير خارجية لبنان”.

أخيراً أقول أيضاً إن فؤاد بطرس أزعج زملاء له في الحكومة بمن فيهم رئيسها إذ اعتبروه فوقيا أو سوبر وزير. وهو لم يكن كذلك، لكنه كان ينزعج جداً من الاحتراف المصلحي عند السياسيين ومن تحوّل الداخلين حديثاً “جنة السياسة أو جحيمها” وفي سرعة الى محترفين بالمعنى اللبناني طبعاً.

فهل يحظى لبنان بعد عقود من القحط بقامات كبيرة عالية، أي برجال دولة من طراز فؤاد شهاب وفؤاد بطرس والشهيد رشيد كرامي يجعلون من”فلسفة العيش معاً” دستوراً نهائياً للبنان الكيان النهائي؟

ملاحظة: كلمة ألقيت مساء الثلثاء الماضي في احتفال أقامته “مؤسسة فؤاد شهاب” تكريماً لذكرى مؤسسها الوزير فؤاد بطرس في قاعة بيار أبو خاطر – الجامعة اليسوعية.

اضف رد