اخبار عاجلة
الرئيسية / home slide / شاطىء الرمال الطويلة

شاطىء الرمال الطويلة

08-12-2021 | 00:40 المصدر: “النهار”

سمير عطالله

تعبيرية (مارك فياض).

في #لبنان وفي كثير من الدول العربية، نوع من السحر يُعرف باسم “الكتابة”. ويعتقد اصحابه بأن في الامكان الدخول في العلاقة بين امرأة ورجل، أو رصد العلاقة بين فريقين سياسيين، وهذا النوع من السحر شائع في مصر حيث يمارسه نحو 350 ألف شخص لهم القدرة على كتب الحجاب، وفكّه، وإخراج الشيطان من الصدور المعذبة، وشفاء المرضى بقراءة بعض التعاويذ. وليس غريباً ان مؤلف كتاب “المسكونة” وليم بلاطي، الاميركي المهاجر من بلدة بلاط، كان لبنانياً. وقد حققت الرواية، وبعدها الفيلم، نجاحاً شعبياً هائلاً في السبعينات. والأرجح ان بلاطي سمعَ بالحكاية إما من أهله المهاجرين وإما خلال عمله في السفارة الاميركية في بيروت، مما سمع من خرافات وأساطير وحقائق. وكانت الكاتبة الاميركية الشهيرة دوروثي باركر تسخر من نتاج ابن بلاط، وموهبته الأدبية. وقد تقاسما ثمن الموهبة: هو أخذ المال والمبيع، وهي أخذت الشهرة والاحترام، وإعجابي الدائم.

سرّ “المكتوب” في لبنان وسحره لا يتغير، ويقع دائماً تحت اسم واحد، الانتخابات: بلدية، رئاسية، برلمانية، اندية، اختيارية، مخاتيرية، وملحقاتها. كان كميل شمعون “رئيس الازدهار” وهي كلمة لم تُعرف إلا معه. كما كان ذكياً وخبيراً بالشعوب والأمم، وله علاقات دولية قوية. وقد شغِل المناصب من اوسطها الى اعلاها، سفيراً، وزيراً، ونائباً ثم رئيساً. ومع ذلك عندما أوشكت ولايته على الانتهاء، قرر ان يبدأ الحياة السياسية من جديد، وعامل قصر القنطاري وكأن البلاد مشيخة من مشيخاته، فأسقط زعماء لبنان من معارضيه، وتجاهل كراماتهم وكرامة مواليهم، ونقل البلاد من اول ازدهار حديث الى اول ثورة حديثة.

كل رئيس، ما عدا الاستثناءات المعروفة، بدأ معركة التجديد لحظة انتهاء عملية الانتخاب. حتى شارل حلو، ذاك النبيه البارع والمثقف الكبير وعالِم التاريخ الممتاز، حتى هو الذي لا يمثل حزباً أو عائلة أو اقطاعاً أو جمهوراً، خطرت له فكرة التجديد، ولاحت عن بُعد وعن قرب. وكان شارل حلو من النوع النادر الذي لا يمثل إلا نفسه. وتلك النفس كانت خليطاً من الخُلق “اليسوعي”، أي الحضاري، ومن التواضع ومن غنى المعارف وتعددها. الرجل الآخر الذي لم يكن يمثل إلا نفسه، كان الياس سركيس. وهو اقل معرفة من شارل حلو واكثر خلقاً وتجرداً ووطنية ودِعة. وبهذه الصفات وكثير غيرها، كان من الصعب ان يمثل أحداً سوى نفسه. بمعنى أنه لا يخضع لإغراء أو رشوة أو تهديد، ولا يقامر بأمانة أو قسَمٍ أو وعد. وكان الرئيس الياس الهراوي، يروي على الدوام كيف ان سركيس تسلّم الصندوق السري في رئاسة الجمهورية وفيه 3 ملايين دولار، وغادر القصر وفي الصندوق 3 ملايين دولار. لم يفتحه حتى على سبيل الفضول. هذه النفوس لا يُعثر عليها في كل مكان ولا في كل زمن. إذ خلف تلك الابتسامة الطيبة والتجرد المطلق لم يضعف الياس سركيس أمام شيء: لا قرابة ولا صداقة ولا وراثة ولا مال ولا وصاية. بذلك كان من الصعب ان يمثل هذا النوع من الرجال أحداً سوى نفسه، لأن النفس أمّارة بالسوء، وقد غلبها. وفي ضعفه الهائل كان اقوى رئيس عرفته الجمهورية. جاء وحيداً وعاش وحيداً وغاب وحيداً. ولا يحتفل الموارنة حتى بذكراه.

فؤاد شهاب، معلّم شارل حلو والياس سركيس، كان من الطبقة الصوفية نفسها. لذلك لم يضرب عليه لبنان سحره، لا عندما سُلّم الرئاسة على اساس موقت، ولا عندما انتُخب، ولا عندما اجمع البلد على عودته. هذه العيّنة من الرجال كانت ترى ان للرئاسة آفتين: التجديد والتوريث، لأن كلاهما يتسبب بارتخاء النفس. واللافت ان الثلاثة كانوا من المؤمنين، بالممارسة وليس فقط بالإيمان. وكان كبيرهم، أي ذلك الأمير النبيل، يُقيم مصلّاه (كابيلّا) في منزله لكي لا يفوته صوم أو صلاة، ولكي لا يؤثر حضوره القداديس على المؤمنين الآخرين ويُلهيهم عن معنى التعبّد.

لذلك، لم يقحم أيٌّ من هؤلاء بلده في أيّ قتال انتحاري او مغامرة شقية أو أنانيات كاسرة ومدمّرة. وقد يقول قائلون ان السبب عند الثلاثة هو عدم وجود وريث في العائلة. وهذا صحيح في الواقع، وتجديف في الحق، فالنفس الكبيرة لا يصنعها اقرباء ولا يهدّمها انسباء. النفس العليا تصنعها النفوس العليّة. وأي تفسير آخر هو تأويل الضعفاء لمعاني القوة.
المشهد الانتخابي الذي يسيطر الآن على المناطق والنواحي والاقضية والمحافظات، اتفه مما عَرف لبنان في اي مرحلة من تاريخه. الناس جائعة حزينة كئيبة يائسة الى أبعد أمداء اليأس والقنوط، والانتخابيون غارقون في عقم الانتخابات. تهدّم كل شيء، وزال كل أمل، وتحوَّل المجتمع الى ضوارٍ مفترسة، وأكره الفقرُ الأخَ بأخيه، وتكاد قلوب الامهات تقسو هي ايضاً بسبب قسوة الحال على الناس والأهل. ومع ذلك، الناس يقترعون من دون ان يقولوا على ماذا. غير انهم في الحقيقة يقترعون علناً وبكل فجور وفظاظة، على ثوب لبنان، أو ما بقي منه للرتّاقين. وكان الشيخ العالِم مصطفى صادق الرافعي، ابن طرابلس الذي أغنى مصر بثروة فقهية وأدبية يقول: “أشد ما يفضح الثوب القذر ان تنزلَ فيه رقعة نظيفة”.

وأيّ ثوب لم يزل ممكناً ان يُرتق اليوم؟ لقد تدهور الى الحضيض اهم ما كان يميّز لبنان، أي تنوّعه الحضاري، ومستوياته الفكرية، ومنطلقاته “الحرّة”. كان منذ وجوده ميناءً يُغني ويَغتني، يُبادل ويُتاجر ويَثرى هو وسواه. وما المركنتيلية التي اتُهم بها سوى صفة من صفات الدول القادرة على صنع حياتها ورفاهها وكفايتها، بدل العيش في الفقر والتسوّل والتوسل والحسد والنقد الفارغ للناجحين والمُجلّين في صناعة الحياة. اخترع الفينيقيون، الذين تعلّمنا ان نكرههم، في جملة ما اخترعوا، اللون الأرجواني الذي لا يزال صعباً على الآخرين ان يصنعوه. ومن هذه الحيلة الجميلة الصغيرة تمكنوا من التجارة مع كبار الأمم. وبسببها ركبوا المراكب وعبروا البحار وربما، المحيطات ايضاً كما يُقال. كل ذلك من دون حروب وقتال وجثث وسطو واحتلال وخراب. فما هو عيب التجارة إذاً؟ وهل تعيش الشعوب من القصائد والثرثرة وأطنان الكلام الفارغ؟ وهل تشتري جميع دواوين الشعر، سريراً في مستشفى، أو شحنة ادوية، كالتي نحتاجها اليوم؟ وعندما نتحدث جميعاً هذه الأيام عن شيء نقيس به حياتنا ووجودنا ومستقبلنا وحاضرنا ومستقبل اولادنا، ألا نلجأ جميعاً الى نسبة النمو الاقتصادي والميزان التجاري وارقام الودائع؟ وهل ما سُرق منّا وما كنّا نعيش به هو حماسة القوّالين، أم ما فقدناه من جنى العمر، بسبب ادارة عديمة الكفاءة قليلة الضمير مصحرة المشاعر؟

الى اي انتخابات يذهب اللبنانيون. ماذا ومَن ستغيّر لهم؟ وأي وجوه جديدة أو مكررة يمكن بعد اليوم ان تستعيد لبنان من الهوّة التي رمي فيها بكل عزم وإصرار أو جهل وعجرفة؟ ألا نرى منذ الآن ان شيئاً لم يتغير ولن يتغيّر، لا عند المعارضة ولا عند الموالاة ولا عند الجميع؟ ما هي هذه الانتخابات التي لا تحمل مشروعاً واحداً سوى طرش الكلام ودهان المفردات وزوزقة النعوش والموت والحياة التي يُفضّل عليها الموت؟ لن ينقذنا الكتبة الصغار الذين يستنسخون الجمل غير المفيدة، والشعارات المبتذلة، والعثّ الموروث منذ القِدَم. لسنا في حاجة الى انتخابات جديدة، نحوّلها مرة اخرى الى مهرجان للصغائر والفشل واختيار المزيد من الفاشلين والديوك. لم يبقِ الفساد شيئاً. لا لِغدٍ ولا الى ما بعده. وإذا ما نظرنا الى خريطة العالم اجمع سوف نجد ان ما من بلد فاسد لا يزال على قائمتيه. والفساد ليس فقط في السرقة والنهب والصفقات، بل هو مظاهر كثيرة من مظاهر التسلط. وليس مهماً على الاطلاق ادّعاء النظافة والنزاهة والتحدي بأن لا ثبوت على المريبين. فالمعروف حتى عند البدائيين، أن اول ما يفعله اللص هو التأكد من محو آثار الجريمة. لذلك، يبدو المتشدقون بنجاحهم في ازالة الآثار، شيئاً مضحكاً وسَمِجاً برغم الحزن الذي يلفُّ البلد لفّاً.

لا مكان في هذا الخواء، لا لدمعة ولا لابتسامة. صخرة هائلة تسد جميع الآفاق. والمرشحون يتكاثرون اكثر من الجائعين الذين يحومون حول المكبّات التي بدأت تفرغ هي ايضاً. بوركينا فاسو اجرت انتخابات وبحضور مراقبين دوليين يشبهون شبها مخيفاً، الأسرة الدولية والمجتمع الدولي. وقد اخترت بوركينا فاسو لأننا نتجاور معها في جميع مؤشرات العدم. مرة هي قبل، مرة بعد.

يذهب الناس الى الانتخابات حيث هم احرار النفوس، لا حيث يكررون الاقتراع للاستبداد. الاستبداد ليس في حاجة الى احد. حدث موت كثير على احد سواحل الصين فسمّوه “شاطىء الرمال الطويلة”. الضحايا قادمة من البر، لا من البحر. شاعرة الاندلس كان اسمها ولاّدة بنت المستكفي. والدها الخليفة، استكفى بالله وهي ما تزال تولد قصص العشق والهوى. نحن بلد ولاّد مآسٍ وأحزان وانتخابات عقيمة، وما مَن يستكفي بالله ويكفي هذا القفص الحزين أذى المواليد الجدد.

هذه ليست دعوة لعدم الاقتراع. هذا نداء للأحرار الذين شهدوا عبر السنين كيف التوت ذريعة الانتخابات، وكم من الضحايا رأوا على الرمال الطويلة، الماء بحر لكنه لا يُشرَب، والشاطىء رمل لكنه لا يُزرع. وحلوق جافة وأجساد محروقة، فيما صُلَعاء الضمائر يرفعون لافتات انتخابهم، بكل عيون بيضاء…

الكلمات الدالةلبنانالسياسة