وسام سعادة
القدس العربي
14022022
انتهت الحرب الباردة بنوع من «سوء تفاهم». فمن زاوية واشنطن كان يبدو منطقياً للغاية أنّ هذه الحرب انتهت إلى نتيجة يعاد بناء العالم عليها. اذ ثمة نموذج انهار وزال، وآخر ظهرت رياديته ونجاعته. وثمة ثنائية قطبية تبددت ولم يعد هناك سوى قوة عظمى وحيدة وهي أمريكا.
وحتى لو لم يبق العالم أحادي القطبية، وأصبح مع الوقت متعدد الأقطاب، الا أن الرقم اثنين في تسلسل القوى ليس متوفراً. أمريكا هي الأولى، ثم ينتقل النقاش الى تحديد القوة الثالثة فالرابعة. وإلا فما معنى لزوال الاتحاد السوفياتي إن لم يكن الأمر كذلك؟ بزواله زالت المرتبة الثانية.
لقد ظلّ الإتحاد السوفياتي يمنّي النفس باللحاق الى المرتبة الأولى، بمستويات التطور العلمي والتكنولوجي والانتاج الصناعي ومعدلات الدخل وأنماط العيش التي حققتها بلدان الغرب زائد نموذجه الأكثر عدلاً على ما كانت تشتهيه عقيدته، ليخسر السباق بعد هذا في كل ميدان، ولم يجد مضماراً ينافس فيه بجدية إلا في سباق التسلّح والرؤوس النووية وحرب النجوم، إلى أن تصدّع بنيانه وأصيب بالتلف السريع.
بل إن السوفيات ظلوا يجرجرون وراءهم الخيبة من مغامرة نيكيتا خروتشيف غير المحسوبة المتمثلة بنشر الصواريخ ذات الرؤوس النووية في كوبا 1962، ناهيك عن ارتداد أزمة برلين 1961 عليهم. أمريكا منتصرة في الحرب الباردة منذ كينيدي، وانطلاقاً من هاتين الأزمتين.
ومثلما أن النقلة الفجائية من عبادة شخص ستالين الى تحميله كل ذنوب القيادة المتذللة له بعد أن مات، فقد أتت إزاحة خروتشيف من منصبه القيادي عام 1964 لتفاقم عملية المكابرة. المكابرة على انعدام التوازن الاستراتيجي مع أمريكا وأكلاف مثل هذه المكابرة على السوفيات. مداخيل الريع النفطي والغازي ظلت تؤجل المشكلة في سنوات عهد بريجنيف الى أن صار التستر على الفشل في الصناعة والزراعة غير ممكن. ثم زاد الطين بلة مع تراجع سعر برميل النفط في الثمانينيات.
استراتيجياً، لم يكسب السوفيات شيئاً يذكر من هزيمة الأمريكيين في فييتنام، والحرب الباردة تحولت عملياً في آسيا، منذ مطلع السبعينيات، الى تواطؤ عابر للأيديولوجيات بين الولايات المتحدة والصين الشعبية في وجه السوفيات. بعد أربع سنوات على تحرير فييتنام لسايغون ورحيل الأمريكيين عنها اجتيح شمال هذا البلد من قبل الصين. بعد ذلك أخذ الشيوعيون الفيتناميون يفهمون أن أمريكا، عدوتهم السابقة، هي التي يعول عليها لحماية بلدهم ومصالحه من الجار الصيني الشيوعي.
أما من ناحية جنوب آسيا، فقد مثّلت باكستان وبشكل مزمن حالة تتلاقى فيها المصالح بين أمريكا والصين. وعلى هذه الخلفية، زائد دور السعودية وقد ازداد أهمية مع الجنرال ضياء الحق، أمكن توفير الخلفية اللوجستية الأساسية لدعم الجماعات المقاتلة ضد الحكم الشيوعي والتدخل السوفياتي في أفغانستان.
خروج السوفيات من أفغانستان لم يتم دون فوز ميداني كبير حققوه ضد أعدائهم في عملية ماجيسترال أواخر 1987 بقيادة بوريس غروموف، وهو آخر عسكري سوفياتي يغادر أفغانستان عام 1989. مثلما أن النظام المدعوم من قبلهم في أفغانستان، نظام نجيب الله، استمر في كابول الى ما بعد زوال الاتحاد السوفياتي، ولم يتبخر فور الانسحاب – كما حصل لفيتنام الجنوبية عندما أخلى الأمريكيون سايغون. ومع ذلك، أصيب السوفيات بنزيف حاد جراء تزامن حربهم في أفغانستان مع زيادة حجم انفاقهم العسكري في ثمانينيات حرب النجوم، مع موجة تراجع سعر برميل النفط بالنسبة الى دولة ريع نفطي وغازي الى حد كبير.
الخسارة النهائية كانت مع انهيار جدار برلين وسقوط الأنظمة التابعة لموسكو في أوروبا الشرقية. تدخلت موسكو لوأد تجربتين ديمقراطيتين صادرتين عن القيادة الشيوعية في كل من المجر 1956 وتشيكوسلوفيا 1968 لكنها وقفت مكتوفة الأيدي أمام طبقة عاملة بولونية تكفر بالشيوعية من أساسها في الثمانينيات ويسندها بابا روما البولوني. وفي النهاية، وجد الجيش الأحمر نفسه وهو يخلي في وقت متزامن كل من أفغانستان وأوروبا الشرقية، وليس قبل أن يمنع السوفيات اريك هونيكر من استخدام مفرط للعنف ضد المنتفضين في برلين الشرقية في خريف 1989، وكان هونيكر مقتنعاً خارج السياق، أنه يمكن بهذه الهراوة الأمنية والدامية أن ينقذ نظامه في ألمانيا الشرقية، بل المنظومة الاشتراكية كلها، أسوة بمجزرة تيان آن مين في بكين الحاصلة في يونيو من ذلك العام والتي ألهمته!
تريد روسيا رد أوكرانيا إلى بيت الطاعة للقيام بماذا بالتحديد؟ تزكية الشعور بأن الحرب الباردة لم تنته بمنتصر ومهزوم أو العودة إلى حرب باردة إنما «على الناشف» هذه المرة، من دون أيديولوجيا
بالنسبة الى الولايات المتحدة، انتهت الحرب الباردة الى نتيجة: رابح وخاسر. حلف شمالي الأطلسي يتوسع ليضم أعضاء حلف فرصوفيا الواحد تلو الآخر اليه. هل هناك قابلية عندها للتشكيك في أن النتيجة كانت حاسمة؟ لقد أفرزت الحرب الباردة منتصراً ومهزوماً من المنظار الأمريكي والغربي. ولحظة حسمها النهائية كانت في مركز النظام العالمي وفي الطرف في آن. من جهة، سقوط جدار برلين وما تبعه، ومن جهة ثانية، فشل الإتحاد السوفياتي رغم المحاولة التي قام بها يفغيني بريماكوف في أن يجنّب العراق العملية الحربية الأمريكية عليه.
هناك رابح وخاسر، أن يكون الاتحاد السوفياتي قد كف عن الوجود فهذا لا يعني أمريكياً أنه لم يخسر كل شيء في آخر الصراع بين الجبابرة. ولا يعني أيضاً أنه ليس لهذه الهزيمة ورثة. لا يمكن أن يكون عقوبة خاسر في حرب باردة كالخاسر في حرب دموية كلية، كما في حالة ألمانيا واليابان، لكن لا يسعه أيضاً القول أني أريد أن أصنف نفسي من بين المنتصرين.
وهذا ما حصل من الجانب الروسي. فموسكو من بوريس يلتسن في التسعينيات إلى فلاديمير بوتين في آخر عقدين ونيف من الزمان ترفض بأشكال مختلفة حيثية أنه ثمة رابح وخاسر في الحرب الباردة. بمعنى هي تعتبر أن الإطاحة بالشيوعية، والاستغناء عن الماركسية اللينينية ونظام الحزب الواحد من بنات أفكار الروس أنفسهم، من صدى تاريخهم هم، وقناعاتهم هم. لم يفرض عليهم هذا التغيير فرضاً كما فرض الحلفاء على الألمان قهراً سياسة اجتثاث النازية. ولأجل ذلك قد يوافق الروس على أنهم أصيبوا بكبوة، بخسائر كبيرة بعد تراجع الهيمنة التي كان يمنحها لهم الاتحاد السوفياتي، لكن يصعب عليهم معادلة نتيجة حرب «باردة» بنتيجة حرب مدمرة شاملة لم تحصل. الظفر في حرب باردة لم تتحول الى ساخنة يظل ناقصا طالما أن هذه الحرب «الفعلية» لم تقع.
بدأ أسلوب يلتسن حيال ذلك، بالسعي لانضمام روسيا نفسها لحلف شمالي الأطلسي والاتحاد الأوروبي، ثم تركز اهتمامه على طلب النجدة من الغرب في مواجهة احيائية سوفياتية يمثلها مرة البرلمان الذي ضربه يلتسن بالمدافع، ومرة مرشح الحزب الشيوعي زيوغانوف (الذي أفلح بوتين في ترويضه دون جهد جهيد).
ثم انتهت مدة يلتسن بمرارة الأخير تجاه الغرب، وبخاصة بعد حرب الأطالسة ضد يوغوسلافيا صربيا 1999 ونشوب حرب الشيشان الثانية، وعلى خلفية التوسع الأطلسي في الشرق الأوروبي المصمم على عزل روسيا.
عندما نادى يلتسن بالالتحاق بالحلف الأطلسي التبس الأمر على يساره وعلى يمينه. بين من يعتبره ينادي بالتبعية للغرب ومن اعتبره يريد تفريغ حلف شمالي الأطلسي من مضمونه. ما مضمون هذا الحلف سأل في المقابل بوتين. جوابه لم يتأخر: الاستمرار في سياسة تطويق روسيا من بعد سياسة تطويق الاتحاد السوفياتي. التعامل معها كما لو انها خرجت من الحرب الباردة مهزومة. أنى لها أن تكون مهزومة والحرب لم تحصل من أساسه؟ جمع بوتين بين هذا الاستهجان وبين توكيده على أن زوال الاتحاد السوفياتي كان كارثة جيوبوليتيكية. ليس بمعنى ابتغاء بعثه. انما بمعنى اللفت الى أنه حين انهارت الإمبراطورية القيصرية كان الاتحاد السوفياتي بمثابة تعويض عنها. التخلي عن الشيوعية لم يستتبع بايجاد تعويض امبراطوري عن الاتحاد الذي مثل بدوره تعويضا تاريخيا عن الامبراطورية القيصرية. وأساسا لماذا تشكل الاتحاد السوفياتي كصيغة قبل مئة عام من عامنا هذا، وبعد أن تداول البلاشفة بأكثر من صيغة؟ نشأ قبل كل شيء لحل المسألة الأوكرانية. بمعنى؟ الموافقة على استقلال أوكرانيا وسلبها هذا الاستقلال في وقت واحد. عندما تأسس الاتحاد عام 1922 كان التفكير في هذه الصيغة تذهب الى أوكرانيا قبل سواها، وبعدها بيلاروسيا. للشقيقات السلافية الشرقية الثلاث. لكن، إذا كان مبرر ضم أوكرانيا هو الإمبراطورية المقدسة، زمن القياصرة، وهو الإمبراطورية الشيوعية، زمن البلاشفة، فان سبب الهيمنة عليها زمن بوتين هو خليط.
خليط من رفض توسع الأطلسي اليها، ومن التحزب الإثني للأوكران الروس بوجه الأوكران الغربيين. خلطة تحمل معها بذور تقسيم أوكرانيا… لكنها تحمل معها كذلك الأمر بذور انقسام روسي أعمق من كل ما رأيناه في روسيا الاتحادية منذ زوال الاتحاد السوفياتي.
في نهاية المطاف، تريد روسيا رد أوكرانيا إلى بيت الطاعة للقيام بماذا بالتحديد؟ تزكية الشعور بأن الحرب الباردة لم تنته بمنتصر ومهزوم أو العودة إلى حرب باردة إنما «على الناشف» هذه المرة، من دون أيديولوجيا، اللهم سوى الدم الروسي العابر للحدود بين البلدين، انما غير العابر، وفقا لهذا المعيار، لكافة أقاليم روسيا نفسها.
كاتب لبناني