نقلا عن المدن
الجمعة12/05/2017
القصيدة نشرتها “الأفكار” التي كانت آنذاك جريدة يصدرها مؤسسها جورج إسحق الخوري. وهي كانت نشرتها في عددها الذي صدر يوم السبت 15 أيار 1948 (العدد 417- السنة العاشرة). وجاء فيها:
أنت واليخت وان تبحرا
في الرياح اللّينات الهبوب
في التعلّات وخفق القلوب
في ذرى
من خضمّ ليلكي الغروب
كاد مُذ أومأت أن يزهرا…
أنت واليخت وان تغربا
آخر الأرض على العالمين
عن عزيف الجنّ والسامرين
عن ربى
طُرّزت بالورد والياسمين
نبتغي بعد السهى مطلبا
أنت واليخت وان تنزلا
في مساء لولئي الغيوم
شاطئاً نسياً بإحدى النجوم
حملا
منذ شارفناه همّ الهموم
آه ما أجمل ما اجملا
الشاطئ الذي تتحدّث عنه القصيدة ليس وحده المنسيّ، إنمّا القصيدة بأكملها منسيّة اليوم. وهي موجّهة من عَلَم لبناني شعريّ الى عَلَم لبناني فنّي. ولا يجوز أن تبقى مطويّة أكثر.
في العام 1932، ترك فيه صليبا الدويهي لبنان، لدراسة الفن في الخارج. وكانت هذه المّرة الأولى التي يُبارح فيها أمكنة اعتبرها مركز حياته، وعالمه، منذ الطفولة في إهدن، وزغرتا. فماذا كتبت الجريدة التي كانت تصدر في مسقط رأسه، وهي جريدة “صدى الشمال” لصاحبها المحامي فريد أنطون؟
تحت عنوان” الفنّان الدويهي” جاء في خبرها المنشور في عددها المزدوج 607 – 608
في النبذة التي احتواها الملّف إشارة الى أن الدويهي تعلّم في مشغل سرور رسم الجداريّات. أمّا سيزار نموّر فقد كان أكثر وضوحاً، ودقّة، بلفته الى كون صليبا تعلّم عند سرور رسم تماثيل الجفصين، والطبيعة الصامتة، وغسل عدّة الرسم. الاّ أن نمّور الذي كان الدويهي قد أودعه عدداً واسعاً من أعماله، على سبيل الأمانة، انفرد في الذهاب الى أن منحة الحكومة اللبنانيّة جاءت بمسعى من النائب والوزير الراحل حميد فرنجيّة. في حين لم يتضّمن خبر الـ”صدى” أية إشارة الى هذه النقطة. لكنّ مجلدها لذلك العام وضعنا أمام حقيقة لا تقبل الجدل، وهي أن صليبا الدويهي كان قد شرع، منذ وقت غير معلوم على وجه الدقّة، في الكتابة، والتعبير عن مشاعره، وأفكاره. بدليل نشر الصحيفة مقالين له: الأوّل قبل سفره ( العدد 597- آب 1932) تحت عنوان “أيها النبع”، والتي لا بد أن يكون نبع مار سركيس هو المخاطب في سطوره، والثاني بعد أيّام من سفره (عدد 609 – 610، الأحد 9 تشرين الأوّل 1932) تحت عنوان ” حيرتي وكياني” المعبّر عن حالته، وعن فلسفته في الحياة، في ذلك العهد.
ولطالما اعتبرت، على المستوى الشخصي، بوصفي أحد المهتمّين بسيرة ونتاج صليبا الدويهي، أن هذا الجانب، أي ميله للكتابة، والتعبير عن نفسه بالقلم، لم ينل حتى الآن ما يستحق من إهتمام. ربّما لطغيان شهرته كفنّان ذي شهرة عالميّة…
وصحيح أن مراسلاته التي لم ينقطع يوماً عن تحريرها من المهاجر، تُثبت، بالملموس، أن أسلوبه عاد فتطوّر كثيراً عمّا كان عليه، ليصبح أكثر غنىً، وتشبّعاً بالأفكار، ونفاذاً الى الروح. سوى أن ذلك ينطبق أيضاً على تحوّلات أسلوبه الفنّي، وتطوّر تقنّيته الخاصة في الرسم .
هذا ما استوقفني. وأظن أنه يستأهل أن يستوقف المهتمّين.
في أول عهده بباريس
لم أكتف بما كتبته جريدة ” صدى الشمال” عن سفر الفنّان صليبا الدويهي لدراسة الفن في باريس. تابعت تقليب أعداد السنتين التاليتين، أي 1933 و 1934، يوم كان ذلك متاحاً لي.. ووقعت على خبر في الأولى، وعلى مقال لحليم سعاده، في الثانية.
الخبر نشر في عددها 691 وفيه تزفّ “الصدى” لقرائها نبأ تفوّق الفنّان الإهدني على النحو الآتي: “بملء الغبطة والسرور تلقّينا نبأ من باريس يفيد أن صديقنا الرسّام الفنّان السيد صليبا الدويهي قد تفّوق على اربعماية طالب إمتحنتهم لجنة مؤلّفة من إثني عشر عضواً من المجمع الفنّي الفرنسوي. فبكل فخر نهنئ الصديق بتفوّقه ونرجو له مزيد التوفيق والنجاح”.
والمعروف أن جريدة “صدى الشمال” كانت تعتمد في أخبار ما وراء البحار على شبكة من المراسلين المتطوّعين المدفوعين بغيرتهم على جريدة مسقطهم. ولا بد أن يكون زوّدها بهذا الخبر غير الموقّع بالذات، حليم سعاده، الذي كان، في ذلك الحين، يتابع دروسه الفلسفيّة واللاهوتيّة في مدرسة “سان سولبيس”، تمهيداً لسيامته كاهناً، في 24 أيار 1936، في كنيسة سيدة لبنان، في العاصمة الفرنسيّة. قبل أن يعود الى لبنان ويعيّن اسقفاً العام 1944 ويقضي حوالى ثلاثين سنة كأمين سر للبطريركية المارونية، وينتقل الى رحمته تعالى في أول نيسان 1967.
أمّا المقال فهو مذيّل بتوقيع حليم سعاده الصريح، ودونما صفة كهنوتية، لأن سعاده لم يكن قد سيم كاهناً بعد. والجانب الإخباري فيه تخالطه الفرحة بالدويهي مجلّياً، وبنور الشرق متجلّياً، في عاصمة النور.
وأسلوبه التحّريري من النوع الذي كان شائعاً في صحافة تلك المرحلة، ويعكس الرصانة التي عرف بها صاحبه، واعتزازه بابن بلدته الذي توسّم فيه، مذ ذاك، خيراً، متوقّعاً له مستقبلاً مشرقاً. وهنا المقال المنشور في العدد 784 الذي نزل الى الأسواق يوم الخميس في 28 حزيران 1934:
الفنّان الدويهي الإهدني
في صالون (الفرنسيين) في باريس
يكرّم الناس رجال الفن ويقدّرون المنتوجات نفوسهم قدرها. وهذا صحيح. رغم إنعكاف فئة من الناس في العصر الحاضر على التلذّذ بكل ما هو مادي رغم جهاد بعض الكافرين الى قتل الروح. ويؤيّد ذلك ما نراه من تسابق الجماهير الى زيارة صالون الفنّانين الإفرنسيين في باريس لغاية سنة 1934. تختار لجنة خاصة من كبار الفنانيّن أبدع ما يعرض عليها من منتوجات السنة وترفض ما تراه غير كامل لأن الفنانين يسعون لعرض الساحر المدهش المبتدع. وذلك من تماثيل وصور وغيره من الفنون الجميلة. ومن يدخل هذا الصالون في هذه السنة يقف أمام صورة (المقصود لوحة) عليها سيماء الغرب وسحر الشرق، دقّة الأوروبيين ونور الشرقيّين. ومن تمعّن لعرف أن تلك اليد هي يد إهدنيّة للفنّان صليبا الدويهي. لا نريد أن نغدق عليه الثناء. فاللجنة زادته. ولا نشاء التفاخر يه الا لنشجّعه للمضيّ في المنهج الذي إتخذه في هذا الموضوع.
أَخَذَ عن اللبناني حبيب سرور الفنّان القدير دقّة الخطوط، ووشي النور، وعن الفنّان الفرنسي استاذه لورنس روعة التلوين، وحكمة (نسف) السحر وطلسه على القماش، ويأخذ عن نفسه سليقته الفنّية ما يجمع بين القديم والساحر، ويمّرد نفسه على جسده فيبدع في تعبير الفكر الروحاني إنعكاس الجمال الأزلي.
لم ينتج الدويهي هذا اللوح (أي اللوحة) فقط بل هناك ألواح أعجبت رجال الفن وأدهشت المتتلمذين لكبار الأساتذة. وقد شاهدنا بعض رفاقه يقصدونه ليوحي إليهم بسر، ويطلعهم على خفايا ما أودع من فنّ وعبقريّة. وإذا بقي الدويهي الفنّان مثابراً على نشاطه واجتهاده، وظلّ مشمولاً بعين المنشّطين المشجّعين ليصل في قليل من الزمن الى عرش من الفنّ عالي المقام.
فإلى الصديق الفنّان، والمواطن السائر الى دكّة النبوغ، تهانينا الخالصة، وأمانينا المخلصة، من أجل توفيقه، وإتمام رغائبه في الفنّ. وأملنا فيه انشاءالله”.
باريس
حليم سعاده