رأي القدس
Nov 11, 2017

منذ إعلان رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري استقالته في الرابع من الشهر الجاري والمشاهد السوريالية تتوالى في لبنان.
الاستقالة بذاتها كانت مذهلة ومفاجئة، فالحريري كان قد التقى قبلها بمستشار المرشد العام للجمهورية الإسلامية الإيرانية، علي أكبر ولايتي، الذي خرج من اللقاء بتصريحات قد تفسّر ما حصل بعدها.
من الواضح أن السعودية، وهي الدولة الراعية للحريري واتجاهه السياسي، استفظعت لقاء الحريري بولايتي ورأت، في التصريحات التي لحقته، إعلاناً إيرانيّاً واضحاً أن لبنان تحت سيطرتها، وأن الحريري لا يستطيع إلا أن يعترف بهذا الواقع إذا أراد الاستمرار في منصبه، وأن على رعاته السعوديين أن يتقبلوا هذه الهزيمة السياسية المكشوفة.
السعودية ردّت باستدعاء الحريري، وحفلت تصريحاته المجلجلة من هناك بجمل لا تتّسق أبداً مع لقائه الدبلوماسي الناعم مع ولايتي. وعليه لا يمكن أن يفهم إعلان الحريري على قناة فضائية سعودية أن «أيدي إيران في المنطقة ستقطع» إلا كإجابة على تصريحات ولايتي بعد لقائه الحريري في بيروت بأن «إيران تحمي استقرار لبنان» وأن «محور المقاومة ينتصر في لبنان وسوريا والعراق».
غير أن اعتبار الاستقالة وخطابها الهجومي على إيران و«حزب الله» ردّا على ولايتي فحسب لا يكفي لتفسير ما حصل، فقرار الاستقالة يفتح عمليّاً الباب على أزمة سياسية كبرى في لبنان، وهو أمر لا يمكن فهمه من دون ربطه بالسياق السعودي والإقليمي العام، فالاستقالة جرت في اليوم نفسه الذي جرت فيه اعتقالات أمراء ومسؤولين ورجال أعمال وإعلام كبار، وهو اليوم نفسه الذي أطلق فيه الحوثيون صاروخا باليستيا على الرياض، الأمر الذي اعتبرته المملكة عدوانا إيرانيا عسكريا مباشرا عليها.
رغم أن الحريري غادر المملكة بعد استقالته في زيارة إلى الإمارات والبحرين، فإن تزامن استقالته مع حملة الاعتقالات الهائلة، ومع أنباء أخرى عن منع الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي من السفر إلى اليمن، أنعشت إشاعات واسعة عن كونه، هو أيضاً، محتجز ولا يستطيع مغادرة السعودية.
أنباء احتجاز الحريري كشفت مشهداً سوريالياً جديداً وغير معتاد يظهر فيه السيد حسن نصر الله، رئيس «حزب الله» اللبناني، مطالباً السعودية بإطلاق سراحه، كما لو أن الحريري لم يكن خصم نصر الله اللدود لسنوات طويلة، وكان الشخصية المعرّضة دائماً للتشهير من قبل إعلام الحزب، والذي اختفى من الساحة اللبنانية لسنوات طويلة خوفاً على حياته. حديث نصر الله، في باطنه الساخر، يقول إن احتجاز وتهديد الحريري وتغيير المعادلات السياسية في لبنان هي أمور محجوزة لإيران و«حزب الله» وليس لغيرهما.
فرضية احتجاز الحريري ما لبثت أن خرجت من مجال المماحكات السياسية المعتادة بين «حزب الله» والسعودية وصارت أكثر تقبّلاً على الساحات السياسية العالمية، فوزارة الخارجية الفرنسية التي قالت إن رئيس الوزراء اللبناني «حر في تنقلاته» طالبت بأن يكون الحريري قادرا بشكل كامل على القيام بدوره الحيوي في لبنان، في تلميح فهم منه أن الحريري ليس حرّاً، ووزير الخارجية الأمريكي، ريكس تيلرسون، طالبه أن يعود إلى لبنان كي يتنحى من هناك، فيما هددت روسيا بتحويل مسألة الحريري برمتها إلى مجلس الأمن، فهل الحريري محتجز حقّاً أم حرّ؟
رغم كونه يحمل الجنسية السعودية، فإن فرضية احتجاز الحريري، بالطريقة التي احتجز بها الأمراء والمسؤولون السعوديون، تبدو صعبة الهضم، لكن الواضح أن ما حصل كان تعبيراً عن إجراء قسريّ، وأن الحريري تعرّض للزجر ولممارسات تضييق يريدان القول إن المصالح السعودية أهمّ من تسويات الحريري الداخلية.
هناك اختلاف بين السعودية والحريري لكن اعتقاله مستبعد (وفي النهاية غير ممكن)، كما أن ابتعاده سياسيا عن السعودية مستبعد، لأنه لا يستطيع التموضع في إطار يختلف جذريا عن إطار سياسات الرياض في لبنان، كما لا يستطيع الوقوف مع «حزب الله» ضد الدولة الراعية له ماليّاً وسياسياً، فهذا انتحار سياسي وماليّا لا يستطيع الحريري دفع أكلافه، ومجرّد التفكير فيه سيجعله خارج المعادلات السياسية اللبنانية.
الحريري، بهذا المعنى، محتجز بفعل سياساته التي لا يستطيع الخروج منها، أما الجغرافيا فتفاصيل.