النهار
27052018
لا وسطية ولا اعتدال بل الحق،
لا تسامح بل المساواة،
لا أكثرية ولا أقلية بل المواطنية،
لا تعايش بل العيش الواحد المشترك،
لا الواحدية، بل التعددية” (أدونيس)
لعلّ أهمّ ما خرجت به الإنتخابات النيابية الأخيرة بمعزل عن الأعداد والأحجام، هو إمساك رؤساء الأحزاب وزعماء الطوائف بزمام الحياة السياسية في لبنان، في سيطرة شبه مطلقة على العباد والبلاد، وفي ظلّ عدم تحقيق القوى المدنية اللاطائفية والعلمانية أي نتيجة تذكر مع إقصاء متعمد للمستقلين ولكل المعترضين على التكتلات الحربية الكبيرة، وفي ظلّ نسبيّة مشوّهة مطعمة بنكهة الأرثوذكسي والأكثري، وتقسيم مجحف للدوائر الإنتخابية مما عزّز الكانتونات المذهبية والإنغلاق في غياب السياسة.
علماً أن النسبية في جوهرها هي انفتاح الكلّ على الكلّ، وفرصة لتمثيل مختلف شرائح المجتمع. فبدلاً من أن يكون مجلس النواب الذي هو مركز التشريع وسنّ القوانين ومراقبة السلطة التنفيذيّة، هو المرجعيّة الدستورية والوطنيّة، أضحى زعماء الطوائف هم المرجعيات الوطنية والدستورية، والبرلمان صدى لخلافاتهم وصراعاتهم وارتباطاتهم الدولية والإقليمية. وبدلاً من أن يكون النائب ممثل الأمة بمختلف تلاوينها ومشاربها ومكوّناتها، أضحى النائب ممثل الطائفة لا بل المذهب، وعليه أوّلاً استرضاء طائفته قبل الشعب اللبناني الذي أنابه لتمثيله ورعاية شؤونه، فبدت الطوائف التي حسمت صراعاتها وتفاهمت في ما بينها كأنها مرتاحة ولا مبالية بأي همّ وطني جامع، تاركةً الطوائف الأخرى منشغلةً بحصر الإرث حيث يسوء المزاج ويعلو الصراخ عند توزيع الحصص.
وبات اللبناني المنتمي إلى طائفة معينة في غربة عن ممثلي الطوائف الأخرى حتى أنه لا يتذكر أسماءهم جميعاً. كأنه لا يحق للمواطن أن يسائل أو يحاسب إلا نواب مذهبه او طائفته.
وبدل أن تحتوي الدولة التنوّع اللبناني، نجد الاحزاب والطوائف تعمل على نهشها ومحاولة توزيعها جوائز ترضية في الوزارات والتعيينات والادارات والنقابات والجامعات، كما تتسابق على الوزارات الخدماتية لتعزيز الحواصل الانتخابية والاصوات التفضيلية في ما بعد.
لذلك فإن وزارات آساسية مثل السياحة والرياضة والزراعة والبيئة والثقافة لا تثير شهيّة أحد، وفي أغلب الاحيان لا يتمّ القبول بها الا على مضض ولا سيّما بموازناتها المتواضعة.
لعلّ الاسوأ من كل ذلك في ظلّ هذا الفحيح الطائفي والمذهبي المتلطّي وراء السياسة، هو اندلاع المعارك داخل كل طائفة ولا سيّما مع عودة لغة الإقصاء والإلغاء من جديد، هذه اللغة الّتي كلّفت اللّبنانيين وخصوصاً المسيحيين منهم أثماناً باهظة. كأنّ اللاعبين في ملاعب السياسة اللبنانية تغيب عن ذاكرتهم صور الماضي الأليم، كما يغيب عنهم استخلاص الدروس من التجارب المريرة. و
هكذا، بدل الحديث عن العيش المشترك بين اللبنانيين، برزت الحاجة إلى التفتيش عن صيغ للعيش المشترك داخل كل طائفة. وبدت الاحتفالات بالنصر في مختلف الأنحاء اللبنانية كأنها إنتصارات محليّة داخليّة ضمن الطائفة الواحدة، لكنّها كلّها انتصارات وهميّة زائلة في بلد مزقته الحروب والصراعات وتحاصره الحرائق الاقليميّة، يرزح تحت مديونية عامة بالغة الخطورة وعلى شفير الإنهيار الإقتصادي، ومهدد بالتصحر والأوبئة الناتجة من تلوث الماء والهواء، ويحتل مرتبة متقدمة في الفساد والصفقات والسمسرات والبطالة ويعاني من الفقر ومن هجرة طاقاته، ويعالج شرعيته وأمنه بالتراضي أو بغضّ النظر.
فالإنتصار الحقيقي هو في صياغة هوية وطنية لبنانية جامعة وفي استرجاع المواطنين لحقوقهم في الأمن، وفي سيادة الدولة على أراضيها وفي إرساء ثقافة العدالة والحوار وقبول الآخر وفي بناء دولة المواطنة، والتوقف عن توزيع شهادات الوطنية والعمالة.
هكذا بدل تطوير الانتخابات على القانون النسبي للتجربة الديموقراطية بالقضاء على الزبائنية ومفهوم الرعايا والعصبيات الطائفية والعشائرية وبالتأسيس لخطاب سياسي لا عنفي جامع يحترم عقول اللبنانيين وكفاءاتهم ويشكل رافعة للتغيير والتجديد، نجدها قد أغرقت اللبنانيين من جديد في التقوقع والإنعزال ضمن غيتوات مذهبية ومناطق مقفلة عبر توظيف كل الموبقات للبقاء في السلطة والتمتع بخيراتها، لقد برعت الطبقة السياسية خلال الحملات الانتخابية في تحويل السياسي إلى طائفي، وعندما حان موسم حصاد المواقع أخذت تحوّل الطائفي إلى سياسي. نتيجة كل ذلك لا تزال تتكرّر أمام أعيننا مشاهد الحياة السياسيّة نفسها، والسّجالات والوعود نفسها، والأزمات نفسها، ونفسها، الوجوه مع بعض التعديلات في الديكورات الخارجيّة، تتكرر بالجهوزية نفسها لاستحضار النزاعات المسلحة التي لا تزال مقيمةً في الذاكرة الفرديّة والجماعيّة.
عند مقاربة حسابات الربح والخسارة في الانتخابات الأخيرة، غُيِّبت المساحات المشتركة، وبرزت مقولة الأقوياء في طوائفهم لا في وطنهم، مع ربط هذه القوة بالميثاقيّة في عملية إقصاء باقي المواطنين وتهميش كل من لا يتبنى الخطاب الرسمي للطائفة أو المذهب، مع تسابقٍ على حجز الكراسي والمواقع.
وإذا كان القوي بحسب الأعراف المعمول بها هو من حاز أكبر نسبة من التصويت، فإن هذا أمرٌ مشروع ومعمولٌ به في بلدان العالم، إنّما للقوّة في بلادنا مفهومٌ آخر وممارسة مغايرة لما عليه في الدول الديموقراطية. فالقوي لا يعتمد خطاب التكفير والتخوين لكل من يخالفه الرأي، ولا يعطي شهادات في الوطنيّة والعمالة، ولا يستثير الغرائز، ولا يمعن تمزيقاً في النسيج الإجتماعي. فالقوي شفافٌ ونزيه وعادل ومترفع ولا يأتمر بأي خارجٍ مهما كانت هويته، ويعتمد معايير واضحة وثابتة وراقية في تقويم الحلفاء والخصوم. القوي هو القادر على اتخاذ القرارات السليمة وتقبّل النقد البنّاء والتفاعل معه بعيداً من الكيديّة وشهوة الإلغاء والإنتقام. فالقوة من دون قابليّة للتحاور ومن دون عدالة، تصبح طغياناً واستبداداً. يقول أحدهم: “أهمّ عناصر قوّة الأمّة جودة تعليمها، ونزاهة قضائها، وحسن اختيار قادتها، ومحاربة الفساد على كلّ مستوى”. فعن أي قوة وأقوياء يتحدّث السياسيون عندنا؟ فالطوائف المستقوية بالعدد أو بالسلاح، ذاهبةٌ حتماً إلى حائطٍ مسدود، لأن الإقرار بالتعدد والتنوع والحياة المشتركة هو الضامن الوحيد للأفراد والجماعات، كما أنّ إستقواء الطوائف بالخارج ورهاناتها عليه، غالباً ما تنتهي بفواجع وبكائيات، كما كانت حال ملوك الطوائف في الأندلس، وكما دلّت عليه التجارب اللبنانية. فالقوة ليست أعداداً واختزالاً للآخرين وإلغاءً للفرادة والتمايز، كما هي ليست استئثاراً بالسلطة وقمعاً لحرية الإختيار، وإنما القوة تتجسّد في البرامج السياسية المتطورة والخطاب الوطني الجامع وبالعمل الدؤوب على إرساء أسس الدولة المدنية. فالتخويف من الآخر عبر تعميم ثقافة الحذر والكراهية، غالباً ما يتحوّل إلى صراعات دمويّة لا ينجو منه أحد.
لم يعرف لبنان في تاريخه الحديث حتى خلال الحرب الأهليّة، هذا الفائض من الإحتقان المذهبي، وهذه الفجاجة في اختزال المجموعات بزعاماتٍ أحادية، وهذا الشبق السلطوي الذي يأخذ في طريقه القيم التأسيسيّة لعلّة وجود لبنان.
فالثقافة الطائفية لا تنتج أدباً ولا مسرحاً ولا سينما ولا رسماً ولا موسيقى. هي تحمل دوماً في طيّاتها دعوات للقتل والقتال.
لقد عرف لبنان في تاريخه القديم والحديث قامات وطنية عابرة للمناطق والطوائف، على رغم عدم الإجماع عليها، أمثال رياض الصلح وفؤاد شهاب وكمال جنبلاط وريمون إدّه وكميل شمعون والياس سركيس وفيليب تقلا وفؤاد بطرس وموريس الجميل ونسيب لحود وسمير فرنجية؛ شخصيات خرجت من شرانق الطائفة إلى الفضاء اللبناني الرّحب، وتميّزت باحترامها للخطوط الحمر التي يجب عدم تجاوزها في علاقات اللبنانيين بعضهم ببعض.
كما عرف التاريخ اللبناني قامات أدبية وفكرية وفنية وثقافية وحقوقية لم يسأل أحدٌ عن إنتمائها الديني، ولم يقف هذا الإنتماء عائقاً أمام إجماع اللبنانيين والعرب عليها، ولم يمنعها من أن تطلق عصر الأنوار من هذا الوطن الصغير.
فمن يهتمّ لانتماء حسن الرفاعي الديني أو إدمون رباط أو إدمون نعيم أو أنور الخطيب أو بطرس ديب أو جوزف ولور مغيزل أو فيليب حتّي أو كمال الصليبي أو قسطنطين زريق أو أنطون غطاس كرم أو حسن مشرّفية أو جورج طعمة أو فؤاد افرام البستاني؟
من يهتمّ لطائفة الشيخ عبدالله العلايلي أو الإمام محمد مهدي شمس الدين أو المطران غريغوار حداد أو الأب ميشال الحايك أو الشيخ صبحي الصالح أو السيد هاني فحص؟
من يسأل عن طائفة جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني ومارون عبود وخليل حاوي وسعيد عقل ويوسف الخال والأخطل الصغير وعمر فاخوري ورئيف خوري وجورج شحادة وأمين معلوف واليازجيين والبساتنة وجورج أنطونيوس ونجيب العازوري ومايكل دبغي وحسن كامل الصباح؟
من يهمه مذهب شوشو الديني أو جلال خوري أو يعقوب الشدراوي أو منبر أبو دبس أو ريمون جبارة أو أنطوان ملتقى أو فاليري صروف أو رضى خوري أو ميراي معلوف؟
من يسأل عن طائفة آسيا داغر أو جورج نصر أو مارون بغدادي أو زياد الدويري أو نادين لبكي؟
من يهتمّ لطائفة أنطون سعادة أو ميشال شيحا أو فؤاد الشمالي أو شارل مالك أو جورج حاوي أو حبيب صادق؟
من يهتمّ لطائفة داود بركات أو روز اليوسف أو نسيب المتني أو ميشال أبو جودة أو سمير قصير أو غسان وجبران تويني أو كامل مروة وميشال أسمر أو أنسي الحاج؟
من يسأل عن طائفة عمر الأنسي أو عمر فروخ أو يوسف الحويك أو قيصر الجميل أو داود قرم أو جان خليفة أو أمين الباشا أو بول غيراغوسيان؟
من يهتمّ لطائفة فيروز والرحابنة أو وديع الصافي أو حليم الرومي أو سعاد محمد أو صباح أو نور الهدى أو زكي ناصيف أو نصري شمس الدين أو وليد غلميّة أو بشارة الخوري أو غبريال يارد أو توفيق وعبد الرحمن الباشا؟
من يهمّه طائفة أسعد السبعلي وميشال طراد أو أسعد سابا أو كابي حداد أو زغلول الدامور أو زين شعيب؟
ذاكرة قيمٍ لبنانية يحلو الإنتماء إليها والانتماء إلى الوطن الذي رسمه هؤلاء المبدعون بأقلامهم وأنغامهم وألوانهم وخشباتهم ومنابرهم. ألا يُعتبر هؤلاء أقوياء أم يُعتبرون مجرد أعداد وأرقام لرفع الحواصل الإنتخابية.
ما بال السياسيين عندنا يُقزّمون هذا الوطن الجميل ويدمّرون ذاكرتنا الوطنية والثقافية والإنسانية؟
ما بالهم يجرّون اللبنانيين عنوةً إلى عصور الإنحطاط وهم روّاد نهضة، عبر القطع ببننا وبين ماضينا الجميل، وعبر تحويلنا إلى جماعاتٍ متناحرة تلهث وراء لقمة العيش أو وراء تأشيرة للذهاب إلى المنافي البعيدة.
هل تستحق بلاد أنجبت هؤلاء الرواد، هذا الفحيح الطائفي على الشاشات وهذه المدائح والأهاجي على مواقع التواصل الإجتماعي؟
يقولون عن الإنتخابات إنّها أعراس ديموقراطيّة.
العصبيات الطائفية لا تتقن تنظيم الأعراس وإنّما تنظيم المآتم.