
وسام سعادة
القدس العربي
09082021
مهما قيل في «خصوصية» الإنهيار المالي والاقتصادي المتواصل في لبنان ليس يمكن تفادي استنطاق هذا النوع الرثّ جدّاً من الرأسماليّة الذي عاشه البلد.
ليس هناك أي بلد في عالم اليوم خارج الرأسمالية تماماً. ولبنان ليس استثناء.
هو البلد الذي هيمن القطاع المصرفي بكثافة على اقتصاده، بحيث كاد يلغي الاقتصاد فيه. قبل أن يصل هذا القطاع إلى مأزقه المتعاظم. هذا المأزق الذي يُدارُ منذ عامين على حساب عموم المودعين، إنما بشكل مبدّد لمقدّرات صغارهم ومتوسطيهم أكثر من سواهم.
أن تكون الرأسمالية فيه على جانب كبير من الرثاثة، وفي غنى تاريخي عن تطوير القوى المنتجة، وفي حِلّ من قواعد المزاحمة الحرّة، وتؤثر بدلاً من ذلك الوكالة الحصرية والإحتكار والمحاصصة، فهذا يجعلها واحدة من أحط أشكال حضور الرأسمالية، لكنه لا يجعلها خارج الرأسمالية تماماً.
فكل ما في الرأسمالية على الطريقة اللبنانية من عناصر موجود في البلدان الأخرى، إنّما العتب على المقادير والنسب. الرأسمالية اللبنانية متخلّفة، تبعية، ذات طابع أوليغارشي ومافيوي حاد، قل ما شئت، لكن كل هذا لا يخرجها عن تاريخ الرأسمالية. تقدّم واحدة من أقصى حالاته فظاظة، لكنها لا تخرج عن قانون القيمة، عن منطق الرأسمالية الباحث دائماً عن رسملة ما لم يُرسمل بعد، عن نهش «الخاص» لـ«العام» و«المشاع» معاً.
التمركز الشديد للثروة في يد قلّة لا يمكنه أن يكون حجة نافية لرأسمالية هكذا بلد، وإنما حجة على رأسماليته، وإظهار لشكلها المريع، والمتخلف عن رُكب الرأسمالية في الوقت عينه.
إذاً، الإنهيار ليس له أن يقارب من دون قول ما في الرأسمالية، نوع حضورها في لبنان، وشكل التخلص من هذا النوع الذي لن يتكفل به الانهيار وحده.
وهذا كان يفترض بالتالي أن يفسح بالمجال لظهور موجة جديدة من اليسار في لبنان.
لأسباب عديدة، يتقاطع فيها المحلي بالاقليمي بالكوني، لم يحصل ذلك إلا بشكل محدود.
ما حدث بصخب أكبر هو انتشار دعاية معادية لليسار والشيوعية بقوة، أولاً من أرباب المصارف، وثانياً من عدد من وجوه وفعاليات اليمين القديم هو الآخر في لبنان، وبشكل يذكر بعودة الروح لمعاداة الشيوعية في اليمين الأمريكي والأمريكي اللاتيني في السنوات الأخيرة، كما في اليمين الهندي، فهؤلاء يرون مؤامرة «الماركسية الثقافية» كما يسمونها، في كل مكان.
وهكذا لم تكتم الغيظة من فوز اليساريين في انتخابات الجامعتين الأمريكية واليسوعية، ثم جرى التحريض على وصول مرشّح من تحدّر شيوعي إلى منصب نقيب المهندسين، وجرى اتهامه بأنه مرشح «حزب الله» فقط لكونه شيعياً، مع أنه سبق له أن قال في نقد « حزب الله» ما لا يُحتمل تأويله. ويبدو أن اليمين، القوات تحديداً، فُجِعت بالنتيجة.
على منابر عدة، وفي مواقع تواصل، انتشرت أيضاً المقارنة بين طوابير السيارات المنتظرة لساعات أمام محطات البنزين، والصيدليات الخاوية، وبما تواترت لدى بعض اليمين من صور حول ما يعتقدون أنه كان واقع الحال دائماً في الإتحاد السوفياتي والأنظمة الاشتراكية.
فوصلوا اما الى اعتبار ان النظام الاقتصادي الذي انهار في لبنان كان يسارياً (!) وإما إلى أن الانهيار يجعل البلد لقمة سائغة لما يشبه الرعب الشيوعي!
فالثقافة السياسية السائدة في لبنان غير قادرة على الإقرار بأن استهتارها اللامحدود بأيّ مسحة عدالة اجتماعية، وبأي تطوير القوى المنتجة، لعب دوراً كبيراً في ما وصلنا إليه
فالثقافة السياسية السائدة في لبنان غير قادرة على الإقرار بأن استهتارها اللامحدود بأيّ مسحة عدالة اجتماعية، وبأي تطوير القوى المنتجة، وبأيّ نظرة مستقبلية بعيدة المدى، وبأيّ تخطيط، وبأيّ طرح حول إعادة توزيع الثروة، حول الضريبة التصاعدية، حول الضريبة على الإرث، وبأيّ عدول عن تخريب الحركة النقابية العمالية وقمعها، لعب دوراً كبيراً في ما وصلنا إليه.
لا، بدلاً من ذلك عليك أن تصدّق ان لبنان، البلد الذي هربت اليه رساميل البرجوازيات من مصر وسوريا وقت التأميمات، كان بلداً محكوماً بنظام ماركسي لينيني هو الذي تسبب بكل هذا.
بالتالي لا يريد هؤلاء الانطلاق من مقاربة النموذج الاقتصادي التاريخي الذي كان قائماً في لبنان قبل وأثناء وبعد الحرب، ويريدون حصر المسائل بواحدة من اثنتين فقط: «الفساد» من جهة، و«سلاح» حزب الله من جهة أخرى. وثمة من يعتبر أنه بلغ الجذرية القصوى اذا جمع بين الأمرين. علما أن «حزب الله» أيضاً يفسر الانهيار بأنه نتيجة لاستفحال الفساد من جهة، ولمحاصرة أمريكا وأعوانها للبلد للضغط عليه كحزب كي يُفرّط بترسانته ودوره.
وعليه، اليمين بل الثقافة السياسية السائدة في لبنان ككل غير راغبة في طرق باب مسؤولية النموذج الاقتصادي ككل، ان لم يكن بعموميات حول انه كان نظاماً ريعياً، وعلينا أن ننتج أكثر. إنتاج خرافي من دون استفهام حول القوى المنتجة.
في المقابل، هذه الحالة لم تساعد على ظهور موجة يسارية جديدة، ولو أنها اعطت بعض الصخب ليسار قديم، ما زال ينظر إلى القرن الماضي، أكثر منه الحالي. وهنا أيضاً، هذا اليسار، على كل الرطانة التي يستخدمها حول الصراع الطبقي، فلا يبدو أنه قادر على تشكيل قوة سياسية قادرة على تحويل إدانة الرأسمالية الرثة القائمة في لبنان إلى أساس لعمل برنامجي يحسب حسابه.
ذلك أن قسماً غير قليل من هذا اليسار غير راغب أيضاً بالاعتراف بالجانب الآخر من الانهيار الحالي. هو يكثر من التنديد بالطائفية بالمطلق، لكنه غير قادر على تمييز مشكلة النزعة التغلبية التي يقودها «حزب الله» بالتحديد، وقراءتها من ضمن تاريخ من الصراع على التغلب بين الجماعات الطائفية في لبنان. فالطائفية ليست فقط صراعاً على المحاصصة، بل هي أيضاً صراع على التغلب، وإذا كان كل الطائفيين يحلمون بالتغلب، فليسوا كلهم من بمستطاعهم فرض املاءاتهم داخل طوائفهم وخارجها، وهذا من جملة المداخل للخوض في «مسألة حزب الله». لكن معظم اليسار اللبناني ليس هنا. والقلة التي مضت في إيضاح مشكلتها مع «حزب الله» اندفعت في المقابل على القيام بذلك على حساب يساريتها، كما لو أن موقفها الضد للحزب ينبغي أن يحملها مثلا عن أن تكون أقل حدية تجاه الرأسمالية الرثة على الطريقة اللبنانية، بل ان تحابيها، وأن تنكر أي وصل بين المشكل الاقتصادي وبين المشكل السياسي، وتفضّل ارجاء القول في الاقتصاد إلى ما بعد كل المشكلة المستعصية المزمنة التي هي «حزب الله» والانقسام العميق بين اللبنانيين حوله.
من بعيد، كان يفترض في بلد مصاب بهذا الشكل بمساوئ الرأسمالية، وبهذا الشكل بتداعيات تغلب الخمينية فيه، أن يطوّر يساراً يريد التفلت من هذا الشكل الرث والانتحاري من هيمنة رأس المال، ومن هذا الشكل الخطير من التبعية لإيران والتغلبية الفئوية في الداخل، بالإضافة إلى موقف لا يقل ضراوة عن الحالات الميليشياوية الآخذة في الظهور اليوم في المقلب الآخر. لكن ظهور يسار كهذا لم يحدث.
لا يمكن تكثيف كل ما تقدّم في الحادثة التي حصلت في منطقة الجميزة مؤخراً، على هامش أحياء سنوية انفجار 4 آب، وتضاربت فيها أقاويل حزبي «القوات اللبنانية» و«الشيوعي» لكن الأكثر جلاء فيها تسريب فيديوهات لأشخاص يضربون قاصرين، ويجبرونهم على سب الشيوعية، وتأليه القوات. إنما في هذه الحادثة تظهر من جهة إلى أين يمكن أن تصل عملياً معزوفة رهاب الشيوعية، هذا اولا، والى أين يمكن أن تصل فداحة الابقاء على نوع كالح من اليسار، غير قادر على استلهام مبادرات جورج حاوي التصالحية بعد الحرب، والداعية للعفو عن سمير جعجع في التسعينيات وبداية الألفية، قبل أن يشارك القيادي التاريخي في حياة الشيوعيين اللبنانيين في سبتمبر 2004، أي قبل اقل من عام من اغتياله، وفي وقت لم يكن يحمل فيه مسؤوليات قيادية في الحزب، في قداس شهداء القوات اللبنانية.
وأكثر، «القوات اللبنانية» التي لا يمكن أن يتوقع منها احد ان تكون غاوية للاشتراكية العلمية، كانت كبقية المشاركين في تحالف 14 آذار من الذين ثابروا على المطالبة بالكشف عن جريمة اغتيال حاوي، ربطاً بجرائم الاغتيالات المتسلسلة في أعوام 2005 – 2013، في حين كان إصرار من الحزب الشيوعي على رفض هذا الربط، وعلى الاستمرار بمناصرة نظام بشار الأسد و«حزب الله».
لكن «القوات» لا يمكنها في الوقت نفسه ان تطالب بالعدالة لحاوي، وأن لا تضبط نزعة معاداة الشيوعية داخلها.
بيد انها مفتونة بقدرتها التنظيمية، على حساب التعاطي بشكل مريح مع الآخرين. هذا في مقابل «حزب شيوعي» لم يفهم بعد أن السؤال ليس اذا كان يفضل التصادم مع «القوات» أو مع» حزب الله» بل ما الذي يمكنه ان يؤسس لحالة يسارية قادرة على الجمع بين تبيئة نقد الرأسمالية في الواقع الانهياري الحالي، وبين نقد الطائفية من دون تمييع جسامة ظاهرتها الأخطر، التغلبية المسلحة التي يقودها «حزب الله» ويربط بها لبنان المتعدد الطوائف بمنظومة تحت قيادة إيران الخمينية.
كاتب لبناني