
حسن داوود
May 24, 2018
القدس العربي
يبدأ فيلم «وعد عند الفجر» بفاصل من حياة رومان غاري، سنشاهد تفاصيلها في الفصول اللاحقة. في هذه البداية للفيلم المستند إلى كتابه الذي يحمل العنوان نفسه، هو في منتصف حياته، مقفل على نفسه غرفته الغارقة بفوضى الأوراق، ولا يستجيب لطرق زوجته المتواصل والعنيف على الباب. وإذ تمكنت الزوجة من الدخول وجدتْه في حال يرثى لها. «خذيني إلى المكسيك»، قال لها، «لا أريد أن أموت هنا في وسط اللامكان». بدا مصرّا على ذلك، إلى حدّ أننا، في المشهد التالي، رأيناه جالسا في السيارة التي ستنقله إلى المكسيك، مريضا متهالكا، فيما زوجته تقلّب أوراقا من روايته الجديدة التي لم تُنشر بعد، مردّدة في أثناء ذلك أنها تقرأ نصّا عظيما.
في فيلم يحكي سيرة سنتعرف على تفاصيلها في ما بعد، بدءا من طفولة بطلها، نفهم أن ذلك الفاصل الأوّل هو فاصل الحياة الأخير. هكذا تجري الأمور عادة في الرواية أو في السينما. أما هنا فلن نتأخّر في أن نعرف أن تلك البداية ليست نهاية لشيء. لم يكن رومان غاري مقبلا على الموت، ولم يكن حتى مريضا. هو متوهّم فقط أن شيئا ما يجري في رأسه، هكذا قال الطبيب الذي، مستخفا، وصف لمريضه الواهم دواء مضادا للالتهاب داعيا إياه للعودة إلى منزله.
هذا الفاصل، المضاف إلى الفيلم من يوميات كاتب آخر ولا صلة له بكتاب غاري المذكور أعلاه، سيبدو محبطا لمشاهديه. ذاك أنه يكسر النمط المعتاد في اللعب بالزمن، تقديما وتأخيرا، لكن لا يصل به إلى أي معنى استثنائي. ربما كانت هذه طريقة المخرج إيريك باربييه للدخول إلى ما رواه رومان غاري عن حياته التي هي، على أي حال، مختلطة المراحل متداخل بعضها ببعض.
في المشاهد التالية نرى غاري في طفولته، فقيرا مع أمه بين جيران عدائيين رافضين أن تقيم بينهم عائلة يهودية، لا أحد منهم يعرف من أين أتت. لكن الأم، التي تؤدي دورها شارلوت غاينسبيرغ، تقاوم ذلك بتحدّي هؤلاء وبتصميمها على ترك بولندا والعيش في فرنسا. وهي تعدّ ابنها لمستقبل يكون فيه عظيما وليس ناجحا فقط. منذ طفولته جعلت تقنعه بأنه سيصبح سفيرا، وهي جعلت تزيد هذا اللقب على اسمه منذ ذلك الحين، بل وربما دعت الآخرين إلى أن يحذوا حذوها. كما أرادت له أن يصبح كاتبا مشهورا، وقائد طائرة حربية مشاركا في المعارك معرّضا نفسه للمغامرة والخطر… إذ أنها تعرف، بحدسها أو بغريزتها، أنه لن يُقتل. كما تعدّه، بين تصوّرات أخرى، لأن يكون زير نساء وعليه أن يهيّئ نفسه لذلك ابتداء من عمر الطفولة.
ولم يخذل غاري أمه في أيّ من هذه. في مرّات عديدة راح يحتجّ على سطوتها عليه و«خنقها» له، لكن ظلّت علاقتهما، في الفيلم كما في ما يرويه هو من حياتهما، غير متسعة مساحتها الضيّقة، الشديدة القرب، لأحد سواهما. أما المستقبل الحافل الذي تعدّه له فليس مما تريده أمّ عادية لابنها الوحيد. بعد انضمامه للجيش الفرنسي، إثر حصوله على حق المواطنة في ذلك البلد، وتدرُّبِه على قيادة الطائرات الحربية، كان الاثنان ينتظران معا، بفارغ الصبر، أن يبدأ غاري القتال. منذ معركته الأولى ألصق صورة أمّه على الزجاج فوق لوحة القيادة، وهو استبسل في القتال، كان من أجلها، غير مكترث بالإصابة التي كادت تقتله.
لقد نجحت في ذلك، وهي نجحت في سوى ذلك أيضا، إذ شغل بعد الحرب الثانية منصب سفير لبلاده. كما أنه، في لحظة بدت كأنه تمكّن من تحقيق مجده، وضع كلمة «النهاية» في ختام روايته الأولى. وهو، إلى ذلك، خاض الحياة التي أرادتها له، متنقّلا من امرأة إلى أخرى ومستعدا للمجازفة على نحوِ ما في مشهد المبارزة بالسلاح الناري بينه وبين ضابط حاول التحرش بفتاة لم يكن يطيق مجالستها أصلا. كأن أزمنة بطولية كثيرة وأبطالا عديدين صنعوا تلك الحياة. هذا ما كانت تريده أمه الممتلئ رأسها بصور جمّعتها من روايات ملحمية أو من تاريخ متخيّل. كانت تلك المرأة الممتلئة بالشغف والوهم تنشئ ابنها على هيئة ما تتخيّل كيف هو فارس الأحلام، فارس أحلامها، أو ربما فرسان أحلامها الكثر، رغم أنها لم تصادف في ما سبق من حياتها من يحمل أيّا من صفاتهم. ففي تلك السيرة لا ذكر للرجل الذي هو زوجها ووالد ولدها، كما لا ذكر لأي رجل آخر. وحين سعى ابنها غاري إلى دفعها للقبول برجل تقدّم لها، رفضت رفضا قاطعا معلنه، مرةّ أخرى، ألا مكان لأحد يشاركهم الحياة، هي وابنها غاري.
مغامرات كثيرة خاضها الروائي الفرنسي. في الفيلم بدا كأن ثلاثة رجال أو أربعة اجتمعوا في شخص واحد، مقرّبا سيرة حياته مما تأتي به أفلام المغامرات عادة. وعلى الرغم من قوّة الشغف البادية في أداء شارلوت غاينسبورغ، تلك القوة المستمرة من بداية الفيلم حتى نهايته، نظل نتساءل ماذا سيضيف المخرج إيريك باربييه على نصّ الكتاب الذي أنجز قول فكرته كاملة.
*فيلم إيريك باربييه «وعد في الفجر» قائم على كتاب رومان غاري الـــذي نشر عام 1962، بعد أن حقّق شهرته ابتداء من كتــابه الأوّل «تربـية أوروبية». الكاتب الذي دوّن سيرته بنفسه حاز جائزة غونكور الأدبية مرتين، مرة باسمه الحقيقي ومرة باسم مستعار، ما يضفي بعدا جديدا على الشخصيات الكثيرة التي كانت له في حياته. كتب سيناريوهات سينمائية وشارك في أخرى. كتابه «وعد الفجر» أو «وعد في الفجر» حسب ما يحتمل العنوان الفرنسي La promesse de l’aube كان قد ظهر في عمل سينمائي أول مع المخرج جول ديسان عام 1970.
٭ روائي لبناني