22-03-2023 | 05:00 المصدر: النهار العربي
زينب الخضيري>
استعادت الروائية السعودية الدكتورة زينب الخضيري ذكرياتها مع المقاهي الثقافية في لبنان، لا سيما تلك التي في شارع الحمراء وجبيل، التي شهدت ولادة رواياتها، وكانت متنفساً وفضاءً للتواصل والتلاقي، ومساحة للحوار والإبداع.
الخضيري فتحت قلبها لـ”النهار العربي”، وقالت إن المقهى تصب فيه كل العناصر التي يتشكل منها المجتمع، فالمقهى هو “نموذج مصغر لعالمنا يضج بكل ما تحتويه دنيانا، ويعد أيضاً مكاناً للعزلة، فقد كان مكاناً للكتابة والتأليف”.
وحيداً في معتزل الكتابة
أن تكتب في مقهى يعني أن تكون وحيداً في مكان مزدحم، هذا تماماً حال الدكتورة الخضيري، التي ترى أن المقاهي لم تكن للتسلية والترفيه فقط، بل اقترنت بأسماء فنية وأدبية، وجسد بعضها الهوية والتراث، وشكل كل مقهى وحدة سياسية واقتصادية واجتماعية وإنسانية.

تقول الخضيري: “لم يكن اختياري للكتابة عن روايتي “هياء” لمجرد أنها رواية، ولكن من منطلق الحب والمشاعر التي عشتها وأنا أكتبها، فقد كنت متلهفة تلهفاً ينذر بالتعلق بها وبشخوصها، فهي بَنت التوتر في داخلي ثم سَمحت له بالانطلاق كالبرق، وأشعلت شرارة الكتابة، ثم جعلتني مفتونة بالعالم، بشروق الشمس وبصوت عصافير الصباح، بفراشة تداعب وردة، بطفل يكتشف محيطه لأول مرة، بالأشياء التي يفعلها الناس بعضهم ببعض، بالحب الذي بدأ يخبو ضوؤه. لذلك كانت مثل الحلم الذي انتظر الليل حتى أنام لألقاه، ومن عاداتي أنني أتوغل في أحراج الفكرة والشخصية قبل أن أدرك ضخامتها، وبالفعل فقد بدأت الفكرة عندما كنت أبحث عن تفاصيل حياة الناس في منطقة نجد قبل سبعين عاماً، ذهبت إلى المكتبة وأحضرت ثلاثة كتب تتحدث عن تلك المرحلة، وشغفت حباً بتلك التفاصيل التي كانت جديدة عليّ ولأول مرة أعرفها، استجمعت قواي وبدأت الكتابة عن أول شخصية وهي “شيخة” الأم التي كابدت مرارات كثيرة كاليتم والفقد والترمل وهي صغيرة، وابنتها “هياء” التي عانت معها وكأن الأبناء يرثون حتى آلام آبائهم وشقاءهم، وأنا من الكُتّاب الذين يتركون الرواية تدافع عن نفسها، فأبطالي يتحدثون، يحبون، ويسكبون دموعهم بجزع وحسرة واعتراض على كل شيء حولهم، وكان المكان الذي كتبت فيه الرواية أحد العوامل المحفزة للكتابة، وكانت المقاهي هي ساحة الكتابة لي”.
وتعود الروائية الخضيري بذاكرتها إلى لبنان: “تنقلت في كتابة رواية “هياء” ما بين لبنان ومقاهيها في بيروت، وشارع الحمراء، ثم في جبيل الهادئة ومقاهيها الدافئة، فقد كانت تراودني مشاعر أبطالي، أتألم لألمهم، وأجزع مثلهم، وتنسكب دموعي كلما أحس بالعجز أحد منهم، أتعاطف معهم وأقول في نفسي (بعض الألم الذي يحس به أبطالي لا داعي له)، وكل حدث في الرواية يسلمك للحدث الذي بعده بسلاسة، وكأنك خارج من بركة مياه تدفعك المياه إلى الأعلى من دون أن تحس بها، هي هكذا الرواية تسلمك لفراشات الكلمات في غنائية جميلة، ولكنها مجهدة جداً وتستنزف الوقت والمشاعر، ولو كنت أعرف كم من الوقت سأنذر نفسي للكتابة لم أكن لأجرؤ على ذلك، ربما لم تكن لدي الشجاعة على البدء، ولكني بدأت بكل قوة وحب وشجاعة، فقد استغرقت كتابتي الرواية ثلاث سنوات بكل تفاصيلها وشجنها، ومقاهي بيروت وسياتل في الولايات المتحدة ومقاهي شارع سان ميشال والحي اللاتيني في باريس تشهد”.
رياضة النّقاش
المقهى الثقافي هو مكان لممارسة رياضة النقاش الثقافي، على حد تعبير الخضيري، عبارة عن مجلس أدبي مصغر، يضم نخبة من أصحاب الذوق الرفيع من الأدب والفكر والفن، بأسلوب عصري يتماشى مع طبيعة المجتمع، ويكون الهدف منه طرح الأفكار الإبداعية، وخلق صورة ثقافية معاصرة بنموذج حديث، وإظهار الهوية الثقافية للبلد.
لذلك “تمنح المقاهي المدن عمقاً إنسانياً، وحسّاً جميلاً بالحركة والحيوية والاحتفال بالحياة، وهي تُشكّل موارد اقتصادية مهمة، وتُوفّر فرص عمل كثيرة، وتغير أجواءنا عن المنزل، وترى أن الأصل في المقهى أنه مكان للثرثرة، ثرثرة ضرورية للتشافي، لنقول نحن هنا، فنعتاد على ارتياد مقهى معين يربط بيننا وبين المكان، فتتحول العادة إلى نوع من الإدمان الجميل أحياناً، والمفرط فيه أحياناً أخرى”.
على كف رتويت
في المقاهي كتبت الروائية زينب الخضيري رواية ثانية، وعن ذلك تعود بذكرياتها مع المقاهي الثقافية “في روايتي “على كف رتويت” رسمت عالماً كاملاً في مخيلتي من مجرد لحظة قصيرة في عين الزمن في أحد مقاهي روما في عام 2014، وهو مقهى غريكو، ذلك المقهى التاريخي الذي شيد قبل 250 سنة، وهو ملتقى ليوهان فولف جانغ، فون غوته، وكذلك الشاعر الفرنسي ستيندال والشاعر البولندي آدم ميكيفيتش، وهناك لوحة معلقة للفنان دومينيكو موريلي، ظلت الفكرة في مخيلتي لأن المقهى ألهمني فكرة للبدء في عمل جديد”.
وتروي: “بدأت أجمع معلومات، إذ لا أتعمد وصف الأشياء بطريقة مرتبة زمنياً، إلا أنني أنظر إليها بعين مشاعري، أحياناً أضع خطاً زمنياً لكي أتبع كل شخصية معينة، فيجدر بالقارئ أن يعيش عالمك لا أن تشير إليه، فكل ما في الأمر يبدو فاتناً وكأنني أدخل حواراً عميقاً مع الشخصيات، أحب تنظيم عوالمي من حيث إيقاع الشخصية ونموها وصراعاتها، لذلك لم أترك رواياتي أبداً، كنت يومياً أكتب وأضيف وأمسح حتى أنتهي، إلا أن الأماكن التي أكتب فيها كانت هي المحفز الأول للكتابة، وكانت المقاهي هي مكاني المفضل للكتابة”.
مقاهي لبنان
في لبنان، تعيش مقاهٍ ثقافية كثيرة في ذاكرة الروائية السعودية زينب الخضيري، وتوضح أن كتباً ومؤلفات تناولت تاريخ هذه المقاهي، مثل مقهى عرمرم، المشهور بأمسيات “شهرياد” الثقافية الشهيرة من عزف وإلقاء وفن تشكيلي، تحت إشراف الحركة الشبابية الأدبية شهرياد (والاسم خليط من اسمي شهريار وشهرزاد).
بالإضافة إلى مقهى المودكا، أشهر مقاهي الحمراء، الذي افتتح في الستينات من القرن الماضي، لكنه أغلق في عام 2013، وهو المقهى الذي تمنى الكاتب الكبير عصام محفوظ أن يربح جائزة مالية كبيرة ليشتري الطابق الذي يقع فوق المقهى، بسبب بُعد المقهى عن منزله، كي يتسنى له النزول بلباس النوم إليه؛ كناية عن شغفه به.
وهناك “محلة الزيتونة”، وهو مقهى هادئ ومبني بالخشب، يقع على شاطئ بيروت، وكان يجلس فيه الأدباء ساعة الغروب في ندوة شاعرية شهيرة، مثل بشارة الخوري وشبلي الملاط وأمين الريحاني وجورجي سعد وآخرين، كما يقع مقهى “النجار” في البرج وفي “ساحة الشهداء”، ومن رواده بشارة الخوري وأمين نخلة ووديع عقل وغيرهم.