اخبار عاجلة
الرئيسية / أضواء على / رغم أنه ظل عراقياً إلى نخاع العظم: السياب وعالمية الشعر

رغم أنه ظل عراقياً إلى نخاع العظم: السياب وعالمية الشعر

عبد الواحد لؤلؤة
Jan 06, 2018
القدس العربي

 

 

 

 

مرة أخرى، بحلول الشهر الأخير من السنة، تثقل عليّ ذكرى غياب الكبار في ثقافتنا العربية من شعراء وأدباء. ليس تشاؤماً في عدم تذكّر «فهي ابتسامٌ في انتظار مبسَم جديد» كما أرادها السيّاب «في كل قطرة من المطر».
فقد بقي السياب يحمل موهبته الشعرية التي دونها موهبة قرينه في العذاب والموت المبكر، بضربة مرض السل، الشاعر الرومانسي الإنكليزي كيتس (1795 ـ 1821). ولد بدر شاكر السياب في قرية جيكور، من أعمال البصرة بجنوب العراق في 24/12/1926 وتوفي في المستشفى الأميري بالكويت في 24/12/1964 بمرض «سل ّالعظام» كما أخبرني الطبيب الأديب الفلسطيني ـ العراقي الدكتور علي كمال، الذي كان يشرف على علاجه في بغداد. ثمان وثلاثون سنة بالتمام والكمال. يا ترى ما الذي كان سيبدعُه كيتس لو امتد به العمر قليلا؟ بل ما الذي كان سيبدعه السيّاب لو نفعه العلاج في مدينة «دَرَمْ» البريطانية التي غادرها يائساً، وهو يردِّد: «دَرَمْ، بنفسي مما عراني بَرَمْ». وبعد عودته إلى العراق يائساً، تلقّفه واحد من عشاق شعره، وأدخله المستشفى الأميري في الكويت، بعد أن عجزت عن علاجه مستشفيات العراق الذي تفانى الشاعر في حبِّه، وتوفي «غريباً على الخليج» ونُقِل جثمانه بجنازة ضئيلة في يوم عاصف، من الكويت إلى مقبرة الحسن البصري في الزبير، جنوب البصرة.
كان السياب عراقيا إلى نخاع العظم منه. في شعره جميعا كان العراق حاضرا، بدءاً من جيكور، وظلال نخيلها. التصاق الشاعر بوطنه ينفي عنه صفة المحليَّة أو الإقليميَّة، إذ كان لا يعادي الأوطان الأخرى. وهذا ما نجده في شعر السياب، ويضفي عليه صفة العالمية، لأن شعره سيخاطب جميع من يحب وطنه، ويثير فيه حماسته الصحيّة للوطن.
تقول إيزابيل غارثيا لوركا شقيقة الشاعر: «أخي فيديريكو شاعر عالمي، لأنه اندلسي. لقد كان دوماً قريبا ًمن تربة موطنه». وهذا القول ينطبق على بدر شاكر السياب، الذي بقي مرتبطاً بوطنه، على الرغم مما تعرض له الوطن من هزّات، سياسية دخيلة حيناً، ومحلية في أحيان أخرى.
إذا ما ذُكِر السياب وشعره، بادر محبو الشعر للتغنّي بقصيدته الكبرى «أنشودة المطر». وقد لا يكون من باب التجاوز على ذائقة محبّي شعر السياب أن نشير إلى بعض الجوانب التي قد تُضيف إلى جمال القصيدة. ثمّة تساؤل يتردّد: هل كانت عينا إقبال حبيبة الشاعر وزوجته خضراوين ليتغزّل بهما بذلك الغزل الجميل؟ ونسأل: هل يُحاسَبُ الشاعر على صورة جميلة يتخيلها لمن يحب؟ في خمسينات القرن الماضي شاعت أغنية اسبانية/ إيطالية بعنوان «أوخوس فيرذيس» أي العيون الخضر. شاعت في أوساط الصفوة من عشاق الأغاني الأجنبية. وأحسب أن القصيدة من عمل الشاعر الأسباني القتيل، العاشق الدائم غارثيا لوركا فأنا لم أعُد أذكر كلماتها اليوم. ولكن خيال الشاعر المرهف طوّر مشهد وداع روميو حبيبته جولييت في مشهد الشرفة المعروف في مسرحية شكسبير. الوداع كان آخر الليل، وروميو لا يريد الابتعاد ولو أنه كان في خطر أن يكتشفه أهل جولييت، وهو شعور السيّاب بخطر أن يكتشف محاولتَه الهروب رجالُ السلطة، إذ كان الشاعر ملاحقاً، فقرر الهروب من وطنه مكرها، «ساعة السحر» التي لا يتبيّن فيها لون العيون لأنهما «غابتا نخيل». وهذه الخضرة في لون العينين خضرة نخيل عراقية ـ بصراوية. وهما «شرفتان» لا شرفة جولييت الواحدة، وقد «راح ينأى عنهما القمر» لأن ساعة السحر هي إيذان بنهاية الليل الذي يغني فيه البلبل، قبل غناء القبّرة عند طلوع الصباح الذي تخشى جولييت ـ إقبال طلوعه. لذا يصرّ روميو ـ السياب: «دعيني أقُل إنه البلبل/ وأن الذي لاح ليس الصباح». وهاتان العينان الخضراوان «حين تبسمان تورق الكروم/ وترقص الأضواء كالأقمار في نهر/ يرجّه المجذاف وَهناً ساعة السَحَر/ كأنما تنبض في غوريهما النجوم». الصورة «بصراوية النَّهَر» خضراء الكروم، خضراء نخيل البصرة، تغرقان في ظلام من أسى شفيف. وتستمر جماليات وصف الفراق حتى تبدأ «أقواس السحاب» التي «تشرب الغيوم… تَسحُّ ما تَسحُّ من دموعها الثقال». هنا ينتقل الشاعر من تضمين الصور الشكسبيرية إلى تضمين صور تنطوي على مخاطر قادمة، قوامها صور الشاعرة إيدث سيتويل في قصيدتها «الماكابر» بعنوان «ما زال يهطل المطر» ولكنه مطر قنابل النازي الهاطلة على لندن في الحرب العالمية الثانية. خيَّم مساء الفراق «والغيوم ما تزال/ تسحُّ ما تسحُّ من دموعها الثقال»، ثقل قنابل «بْلِتْزْ» الألمانية، دموع فراق ينذر بالموت في الغربة. المطر يبعث الحزن عند الفراق. لكن «مقلتاكِ بي تطيفان مع المطر/ وعَبرَ أمواج الخليج تمسح البروق/ سواحلَ العراق بالنجوم والمحار/ كأنّها تهمّ بالشروق». لكن الليل «يسحبُ عليها من دمٍ دثار». الشاعر في هروبه من الوطن يبقى مسكوناً بالوطن. وفي الخليج يصيح الهارب «يا خليج، يا واهبَ اللؤلؤ والمحار والردى» لكن الصدى يغدو «واهب المحار والردى». فهو لا ينتظر اللؤلؤ، بل سيكون نصيبه الردى، وهو الموت الذي انتهى إليه في المستشفى الأميري بالكويت على الخليج. هكذا يتطور مشهد الغزل الحزين إلى مشهد مطر لا يعشب الثرى، بل يتسبب في جوع، لأن «في العراق ألف أفعى تشرب الرحيق/ من زهرة يَرِبُّها الفرات بالندى». هكذا هو الشاعر «الرائي» بالمصطلح اللاتيني، وقبله شاعر كلكامش الذي «رأى». لا يدور الشاعر في تهويمات، بل يبقى مرتبطاً بالوطن، على ما فيه من آلام، يبقى «في انتظار مبسم جديد».
وعراقيّة السياب نجدها في أغلب قصائده، إذ يتحيَّن مناسبة، أو حدثاً في موضوع يكتب فيه، فيتغنى بحب وطنه. في قصيدة «غريب على الخليج»، تعود إلى اغترابه عام 1953 في الكويت، نقرأ: «وعلى الرمال، على الخليج… صوتٌ تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق/ كالمدِّ يصعدُ، كالسحابة، كالدموع إلى العيون». ثم: «الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام/ حتى الظلام ـ هناك أجملُ، فهو يحتضن العراق». ثم: «بين القرى المتهيِّبات خُطايَ والمدن الغريبة/ غنَّيتُ تُربَتكَ الحبيبة، وحَمَلتُها فأنا المسيح يجرُّ في المنفى صليبه».
حنين العاشق «أبداً لأول منزل». وهذا المنزل الأول للعاشق الأبدي لوركا ـ السياب هو مسقط رأسه: غرناطة ـ جيكور. ففي «المدينة» يبقى الشاعر العاشق يذكر القرية «فينتي فاكيروس» ـ جيكور، القريبة من غرناطة ـ البصرة. لكن حنينه إلى الموطن الأول، فيسأل: «وجيكور، من غلَّق الدورَ فيها ـ وجاء ابنها يطرق الباب ـ دونه؟/ ومن حوّل الدربَ عنها.. فمن حيثُ دارَ اشرأبَّت اليه المدينة؟/ وجيكور خضراء مسّ الأصيل ذرى النخل فيها بشمسٍ حزينة/ يمدّ الكرى لي طريقا إليها/ من القلب يمتدّ عَبر الدهاليز عَبر الدُّجى والقلاع الحصينة../ وجيكور من دونها قام سورٌ وبوّابةٌ واحتوَتها سَكينة». هذا ما يقوله في قصيدة «جيكور والمدينة» حيث تبقى قرية المولد أكثر قرباً إلى قلب الشاعر من المدينة. وفي «العودة إلى جيكور» ما يزال ينادي «يا شمسَ أيّامي، أما من رجوع/ جيكور نامي في ظلام السنين».
مثل كثير من أبناء جيله، شَهِدَ السيّاب تطوّرات في فكر الشباب، في الفترة بعد الحرب العالمية الثانية وبدايات الخمسينات. كانت الأفكار اليسارية ـ الاشتراكية والشيوعية هي المسيطرة على جيل يتطلع إلى الخلاص من الحكم الأجنبي الرأسمالي. ولم يكن السيّاب بعيداً عن ذلك التيار الفكري، لكنه كان مرتبطا بالإنسان لا بالسلطان. يتساءل في «ليلة في العراق» قصيدة كتبها في البصرة 8 ـ 4 ـ 1963 بعد أن مضى «بالأسى عامان، ثم يهدّه الداء»… يتساءل «كيف يجوع آلاف من الأطفال ملتفّه/ بآلاف الخروق تُعربِد الريح الشتائية/ بها وأظل أحلم بالهوى، والشط والقمر؟» لكنه يستدرك: «وإذ يتمرّد الإنسان فيّ على العبودية/ أثور على الشيوعية/ ولكن البنادق ما تزال عيونها الغضبى/ تطاردني، لأني غير ربّي وحدَه، لم اتَّخذ ربّا/». يا ترى كم شاعِراً أو أديبا ممن نعرف قد «ثار على العبودية» وبقي أميناً على وطنه وشعبه في غنائه وشعره؟

اضف رد