اخبار عاجلة
الرئيسية / إعلانات / ربيعة جلطي: نعيش حصارا ثقافيا في الجزائر… الكتابة تخلصنا من الفناء

ربيعة جلطي: نعيش حصارا ثقافيا في الجزائر… الكتابة تخلصنا من الفناء

 

حاورها سعيد خطيبي
Dec 02, 2017
القدس العربي

حاورها: سعيد خطيبي: أصدرت، مؤخراً، ربيعة جلطي (1964) كتاباً جديداً، بعنوان «سيرة شغف»، وهو مجموعة مقالات، عن تجارب وتأملات شخصية، كما صدرت لها الطبعة الثانية من رواية «نادي الصنوبر». وتواصل، بالموازاة، الاشتغال على تجربتها الشعرية والدفاع عن الشعر، وتتحدث في هذا الحوار عن علاقتها بالأدب، وبعض من حياتها الخاصة.

■ في السنوات الأخيرة، تعددت إصداراتك، بين شعر ورواية وكتاب مقالات. ماذا تنتظرين من «الكتابة» في الجزائر؟ وما جدوى الكتابة في الجزائر؟
□ في سؤالك رأسان سأحاول تفكيكهما. الأول أنني فعلا في السنوات الأخيرة صرت أملك أضعاف الوقت الذي كان بحوزتي حين كان أطفالي الثلاثة صغارًا، فمن قبْل كنت أسرق من واجبات الأمومة والتحضير لرسالة الدكتوراه وقتًا قدر المستطاع لكتابة الشعر والسفر، وللاستجابة لدعوات القراءة في ملتقيات شعرية دولية، ومع ذلك نشرت بعد «تضاريس لوجه غير باريسي» عددا من الكتب الشعرية، أما في السنوات الأخيرة بعد أن كبر الأولاد أصبح تنظيم الوقت داخل الأسرة يمنحني متسعًا مريحًا للكتابة.. كثيرا ما يُواجهنا سؤال استنكاري عن جدوى الكتابة في زمن ومكان جاحدين! إلا أننا لا نستطيع التنصل منها لأنها قدر. مخَلصنا من «الفناء» السريع. أنا أؤمن بأن الكتابة طلسم ذاتي وجماعي، لو لم تكن الكتابة جزءًا مني مثل فصيلة الدم، لتوقفت عن ممارستها منذ زمن. إنها مثل «الدين». مثل إله من التمر. «دين» نصنعه بأيدينا نعتقد في قوته، وفي اليوم التالي نكتب شيئًا آخر ونكاد نكفر بالسابق. لا أراني مشيدةً سوى من اللغة بأشكال حروفها وكلماتها وأجراسها المختلفة. ثم إن الكتابة تمنحني سموات وأراضي أخرى واسعة، عليها أصدقاء كثر من القراء. يحدث أن نُصاحب معًا شخوص رواياتي. نعيش معها. ثم إنني أؤمن بأن للكتابة على المستوى السوسيولوجي تأثيرها في التغيير، لو لم أكن أعتقد بالقوة الناعمة للتغيير الكامنة في الكتابة لكانت اللاجدوى قد تغلبت، ولكنتُ توقفت عنها. في الجزائر كما في العالم العربي، تبدو الكتابة شبيهة بمغامرة التجول ليلا في غابة، وذلك لأنها حاملة للحرية والحلم في مجتمعات مقبلة على الانتحار اليومي. الكاتب في بلداننا له قوة خارقة لا يمتلكها الكاتب في البلدان الأوروبية، حيث أن المؤسسات هناك ترعى الكتابة، فهناك رأسمال جاهز من القراء، وهناك حياة ثقافية تُرافق الكتابة، أما في عالمنا العربي فالكتابة ضرب من المقاومة الفردية ضد الانتحار وضد الفراغ.

■ عُرفت ـ طويلاً ـ كشاعرة، ثم انتقلت إلى الرواية، وتركت الشعر وحيداً؟
□ في الواقع أنا لم أترك الشعر، وحتى لو أردت ذلك فلن أستطيع. لأنني وُلدتُ هكذا بهذه الهشاشة القوية والحساسية المفرطة للغة والموسيقى والألوان والعذوبة المبثوثة في ما يُحيط بِنَا في الحياة. الشعر له موجات فاعلة في نفسي قبل وجوده على الورق في شكل نصوص. أحيانا لا أَجِد ما يُضاهي ما بداخلي في اللغة فأصمت. كيف أترك الشعر وحيدا، بينما نحن شبيهان! نحن وحيدان. أكتب الشعر والسرد معا ولكل شروطه الفنية، إلا أنني لا أؤمن بالجمارك وشرطة الحدود بين الأجناس الأدبية. تأتيني فكرة قد تتبلور في شكل قصيدة أو تتشكل في عالم روائي، وأعتقد أن من يقرأ نصوصي الشعرية يجد فيها كثيرًا من السردية الشعرية، وهذا ما شهد به الشاعر عبد اللطيف اللعبي الذي ترجم ديواني «..وحديث في السر». كما أنني أحرص في رواياتي على نحت الجمل التفصيلية التوصيفية والإخبارية نحتا شعريا، وهو ما يجعل نصوصي الروائية فيها كثير من الاقتصاد اللغوي. الثقافة الأدبية العربية اليوم ـ مع الأسف ـ تقيم حواجز بين الممارسات الأدبية، ربما تنسى أن كبار الروائيين كانوا شعراء مثل فيكتور هوغو وكاتب ياسين وسليم بركات وغيرهم الكثير. إن الفصل العنصري بين الأجناس الأدبية، ممارسة تقليدية في مقاربة الكتابة.

■ بالنسبة لك، هل كتابة رواية فعل مُريح، يشعرك بسعادة؟ أم الأمر أريح في كتابة الشعر؟
□ الكتابة احتراق الأصابع، شعرًا كانت أم رواية، وهي مشقة فيزيقية، كما هي مشقة فكرية أيضًا. وهي غواية، إلا أنني أعتقد أن كتابة الرواية وبالتالي العيش مع عائلة من الشخوص أخلقها وأتبادل معها سؤال الوجود وفناجين القهوة ونستمع معا إلى أصناف من الموسيقى الشرقية والغربية، ونسافر معا في القطارات والطائرات، ونقضي ليالي نتبادل أطراف الحديث عن الواقعي وعن المتخيل. نعيش معا خلال سنتين أو أكثر. ومع كل كتابة رواية، أسعد بهذا الوجود المتعدد، الضاج، فالرواية كما سفينة كبيرة مكتظة بالناس فوق مياه بحر هائج. أما الشعر فهو «كتابة العزلة»، «كتابة الواحد» لذا فهي قاسية وحارة.

■ يبدو عالمك الكتابي محاطا بكثير من النساء. النساء هن اللواتي دفعنك للكتابة؟
□ المرأة الأكثر حضورا في مخيالي، ولها سحر خاص على الكتابة لديّ، هي جدتي فاطمة الزهراء. امرأة جميلة، أنيقة في كل شيء. هي التي أخذت بيدي الصغيرة إلى أول فيلم في قاعة سينمائية. وهي التي أخذت بيدي الصغيرة لأحضر أجمل أعراس عائلتها في ندرومة (غرب الجزائر)، وأرى على المباشر الأوركسترا تعزف الأغاني الأندلسية بقيادة الشيخ غفور، في باحة كبيرة محاطة بالأشجار العتيقة العالية، حول حوض ماء يذكر نحيبُه الهامسُ بالأندلس. منها تعلمت حب الموسيقى والغناء. منها تعلمت معنى الوفاء، فقد ترملتْ وعمرها لا يتجاوز الثلاثين، وظلت وفية لزوجها جدي لأبي حتى التسعين إلا أشهر. منها تعلمت الانتباه إلى جماليات المكان. من بين مشاريعي نص روائي يسكن قلبي عن هذه الجدة المعلمة الاستثنائية، عن حياتها وأوصافها وأسرارها. فمن خلالها اكتشفت كيف كانت الجزائر، خاصة مدينة ندرومة، مفتوحة على التسامح، حيث كانت الديانات الثلاثة تتعايش بكل احترام، وكانت الموسيقى تجمع الناس قبل أن تجمعهم السياسة أو العقيدة. عشتُ بعيدًا عن أمي منذ عامي الثاني، لم يكن الأمر سهلا على الطفلة تلك التي كنتُها، ولها سبع خالات، وعالم ضاج من نساء العائلتين الكبيرتين وزوجة الأب. لكن في حضن لالة فاطمة الزهراء جدتي لأبي، عرفت الأسفار الكثيرة، واكتشفت كيف يُكتشف الجمال وفيه قرأت القصص الأولى.

■ هناك بعد ديني صوفي في تكوينك أيضاً؟
□ كل ما هو صوفي في كتاباتي مقبل من مكتبة والدي المنزلية التي كانت تزخر بأمهات الكتب. تعرفت باكرًا على ابن عربي وعلى التوحيدي والحلاج ورابعة العدوية. والدي متدين ولكنه غير متعصب، تحب الله إذ تستمع إليه. تقي ويحفظ القرآن، يعجب بالأدب بلغتيه، بطه حسين وبموليير. ولَم أسمعه في حياتي يكفر أحدا أو يحجز له مكانا في جهنم. الصوفية في كتاباتي مقبلة أيضا من حالات الإحساس الذي تشعه الموسيقى الأندلسية، التي فتحتُ حواسي عليها في مدينة تضج وتعشق الموسيقى الأندلسية، ولعلها الجينات والإرث والدم أيضا، فأنا سليلة الشيخ قدور بن عاشور الزرهوني، والشيخ غفور أيضا من عائلتي. الشعر والموسيقى بالنسبة لنا مثل الابتهال. مبكرة كنت أشعر بأن الثقافة التصوفية، خاصة في الشعر، هي أقوى ما أنتجته الحضارة الإسلامية، وهي التي ارتقت باللغة العربية عاليا.

■ هل يمكن أن تصفي لنا كيف تقضين ساعات الكتابة؟ كيف هي طقوسك أمام ورقة بيضاء؟
□ العزلة أول شرط للكتابة، أن أختلي بنفسي وشخوصي الروائية وأن أحتمي بلغتي الخاصة. ويحدث أن تكلم نفسك لحظة الكتابة، أنت وحدك المتأكد أنك لست وحدك. لا فرق إن كان الوقت وسط الليل أو في الصباح فجرًا أو عشية، لكنه وقتٌ زمنه مختلف، فأثناء الكتابة تدور عقارب الساعة وتتصالب بالطريقة نفسها، ولكنها أبدا لا تركض في الزمن نفسِه ولا تكرر الزمنٓ نفسَه. حين أكتب آكل مثلما تقتات العصافير. في ساعات الكتابة ألغي مواعيد زياراتي وأعتذر لصديقاتي. بين الصمْتَيْن أحب سماع الموسيقى، خاصة الجاز، الذي يوقظ أعمق المشاعر وأقربها، ويقربني من عوالم شخوصي الروائية، وتبدو اللغة عجينة ملونة بين أصابعي. يحدث أن أكتب ثماني ساعات في اليوم.
■ نشعر أن حياتك المكتظة بالوجوه تحولت، في لحظة من اللحظات، إلى عزلة، نشعر بها في كتاباتك الأخيرة.
□ حياتي الشخصية لم تتغير، لي أصدقاء كثيرون من العرب والأوروبيين، ولنا في أسرتنا الصغيرة برنامج خاص في الموسيقى والمسرح والسينما، خاصة حين أكون في الخارج. فكلما كنت على سفر أول ما أسأل عنه هو الأفلام الأخيرة، وأبرمج مشاهدتها، حتى أن أسفاري ارتبطت في مخيلتي ببعض الأفلام التي شاهدتها، والتي مع الأسف لا يمكن مشاهدتها في بلدنا. مع الأسف الفضاءات الثقافية في بلادنا نادرة، والفعل الثقافي مناسباتي، وهذا ما يجعل علاقتنا نحن الكتاب في ما بيننا تتم بالصدفة، فيحدث أن ألتقي كتابا جزائريين في ندوات في الخارج، أكثر مما ألتقي بهم في العاصمة التي أقيم فيها. بهذا المفهوم نحن نعيش حصارًا ثقافيا بامتياز.

■ وهران ودمشق.. مدينتان حاضرتان في مخيلتك، مع مدن أخرى تظهر بشكل خفي. كما لو أنك تكتبين بحنين لأمكنة عشت فيها؟
□ كبرت في وهران، في شارع يحمل اسم الشاعر والمسرحي ألفريد دو موسي، يُحاذي البحر. المدينة التي اختطفتني صغيرة جدًا من ندرومة. وهران مدينة لا غريب فيها، كل من يدخل وهران يصبح وهرانيًا. في نهاية التسعينيات كان فيها أزيد من ست وسبعين جنسية. وهران حضرتْ بقوة في كتابي الأخير «سيرة شغف». كتبتُها بشوارعها ورائحة قهوتها وزوارها، من سعدي يوسف ومحمود درويش و يوفتيشينكو وغيرهم. حين أُسافر إلى بلدان بعيدة، وأزور المدن الجميلة، أفكر دائما بأن مركز العالم يوجد في وهران. أما مكانة دمشق في نفسي، بأزقتها وحياتها الحضارية البسيطة، وناسها الرائعين، من عاديين ومثقفين، فكأنها توأم مدينة ندرومة العريقة. في دمشق تعرفت على النخبة العربية من الكتاب والفنانين السوريين والعراقيين واللبنانيين والعمانيين واليمنيين، شوقي بزيع، البردوني، قاسم حداد، سيف الرحبي، حنا مينة، خليل صويلح، عبدلكي، نبيل سليمان، أسعد فضة.. كانت دمشق منصة الفكر والفن والجمال، مدينة مفتوحة على التجديد باستمرار، مدينة مقاومة، صبورة ومتسامحة. إن علاقتي بالأمكنة ليست بطابع النوستالجيا السلبية، إنما هي منبع أسئلة الوجود والاختلاف والحلم الإنساني.

■ المدينة الجزائرية تغيرت ـ كثيراً ـ في العشريتين الماضيتين. صارت الأمكنة متشابهة في فقد معالمها وتاريخها؟
□ نعم. لقد تريفت المدن. كانت وهران مثلا تغتسل كل صباح، وتتجمل قبل أن تستقبل المارة، تمر الشاحنات فتغسل الشوارع، وتوقظ الشجيرات النائمة في الأزقة والشوارع الخلفية وتسقيها. قاعات السينما مأهولة بنظام وحضارة. وبائع الخبز وبائع الحليب. كل شيء كان مرتبًا، وكل من يدخل المدينة مجبر على احترام هذا النسق من الحياة، لكن يبدو أن خَوْنَجة المدرسة والمجتمع غيرت كل القيم المدينية، وأدخلت الحس الريفي بل القبلي إلى المدينة.

■ المرأة أيضاً بات وضعها مرهقا في الجزائر. صارت تخاف على نفسها من تعدد أشكال الاضطهاد المفروض عليها؟
لا أظن أن هناك موضوعا آخر يقلق العالم أكثر من العنف بكل أشكاله. المجتمع بدوره أصبح عنيفا ضد كل ما يمكنه أن يرمز للحرية الفردية. مجتمعنا يسير مغمض العينين على وقع حوافر»القطيع» ولا يعترف بحرية الفرد، ويجد العنف ضد المرأة تبريره وتفسيره في الثقافة الدينية الإسلاموية التي جاء بها تيار الإخوان المسلمين إلى الجزائر، التي غالبا ما تحتضنها المرأة نفسها وتعيد إنتاجها وغرسها في الأسرة بدون وعي. ويزداد انتشار التخلف الذي هو العدو الحقيقي للمرأة والرجل وللمجتمع قاطبة. ويتم تدمير الحلم في مجتمع متوازن وحر. لقد أصبح الشارع الجزائري من خلال لباس المرأة وكأنه أفغانستاني أو من الصعيد أو في جدة. إن التمشرق الإسلاموي اغتال كل ما كانت تحمله المرأة الجزائرية من حلم في الحضارة والتمدن. لقد خانوا ذاكرة وقيم جميلة بوحيرد ومليكة قايد ومليحة حميدو وغيرهن من الشهيدات والمناضلات اللواتي خرجن من قلب المجتمع الجزائري، جميلات وخلوقات وشجاعات. ومع ذلك أعتقد أن هناك مقاومة كبيرة ورزينة من قبل المثقفات والأمهات الواعيات من الأجيال الجديدة، ضد هذا الزحف الإخواني الذي يهدد سلامة المجتمع، ويروم إعادة المرأة إلى مربع الحريم.

■ حصلت كثير من الطفرات في تاريخ الجزائر الحديث، من انتفاضة أكتوبر/تشرين الأول 1988 إلى سنوات العشرية السوداء، في التسعينيات، لكن وضع المرأة لم يتغير.
□ كنت دائما أردد منذ حوالي عشرين سنة، وأنا أتابع أولادي وأولاد صديقاتي وأصدقائي في مدارسهم، وتغير تصرفات الشارع وعنفه نحو المرأة: أن احذروا من المدرسة! المدرسة الجزائرية هي التي فرخت هذا الوباء الاجتماعي. وإذا كانت الأحزاب الإسلامية لا فاعلية لها، فإن المدرسة قامت بخونجة المجتمع. ولا يخفى على أحد أن العدو الأساسي لمجتمع منغلق هو المرأة. وكل امرأة ترفع صوتها ضد هذه السلوكات القروسطية توسم بأنها «مستغربة» وكافرة وفاجرة. ولقد جاء في روايتي «نادي الصنوبر» توصيف لحالتين متناقضتين كيف تقربُ لغةُ الجَد صورة الله من قلب التلميذ فيملؤه الحب، وكيف يصفه درس مناهج التدريس الجزائرية فيملؤه الخوف. لن تتحسن وضعية المرأة ومنه المجتمع إلا بإعادة النظر في البرامج المدرسية، وبالتالي صعود جيل جديد من الإناث والذكور نقي الفكر، بإقامة إصلاح جذري للمنظومة التعليمية في بلادنا

■ بعد تجربة طويلة في الكتابة، دامت أكثر من ثلاثة عقود، ما هو الشيء الذي ترغبين في فعله الآن؟
□ فعل الكتابة والقراءة انشغال يومي.. منذ زمن لدي حلم تهفو إليه نفسي وهو تحويل قصيدة طويلة لي بعنوان حَنة (جدتي) منشورة في أحد كتبي، إلى عالم روائي تستوي على عرش بطولته حنة، هذه المرأة الاستثنائية ذات الحياة المليئة بالحكايات والمنعرجات والمفاجآت.

اضف رد