شاءت المقاومة في نسختها التي يمثلها #حزب_الله أن تخرج من ساحتها أو منزلها إلى ساحات أخرى. ابتعد الحزب إلى الساحة السورية وساحات أخرى من خلال تدخله مع مقاومته إلى جانب النظام، وكأن وظيفة المقاومة الأصلية انتهت لمصلحة مشاريع إقليمية،على رغم أن الحزب يذكرنا دائماً بأنه على جهوزية تامة لمواجهة أي اعتداء اسرائيلي.
لهذا الكلام صلة بما حدث للمقاومة ضد الاحتلال من تحولات وتبدلات أنهتا نسختها الأولى الوطنية لمصلحة مقاومة اسلامية قاتلت اسرائيل لكن بمشاريع إقليمية. فكم هي المسافة شاسعة اليوم بين مقاربتين مختلفتين للمقاومة ضد الاحتلال الاسرائيلي، تلك التي انطلقت في 16 أيلول 1982 وسارت على طريق التحرير تلبية لنداء المقاومة والبدايات، لكن دورها وموقعها اندثرا لاحقاً. فيما تبدو المفارقة شاسعة، أمامالنهاية المأسوية، حين صارت نسخة المقاومة الثانية في ساحات أخرى وشاركت في حروب عربية بعض نتائجها كارثي.
نتذكر الإنطلاقة الأولى لـ”جمول” في ذلك البيت الصغير في المصيطبة، قرب بيت الشهيد كمال جنبلاط في بيروت، ذلك النداء الذي أطلقه الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي والأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي محسن ابرهيم وأعلنا نداء “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” ضد الاحتلال الإسرائيلي، والذي كان احتل العاصمة بيروت، على رغم مقاومة اللبنانيين لدباباته.
كان البيان التأسيسي اللبناني لمواجهة الاحتلال الاسرائيلي، فراحت بيروت تقاوم، وأجبرته على الانسحاب، بعد أقل من أسبوعين، من دون مفاوضات أو شروط، لتعم المقاومة مختلف المناطق. ونجحت هذه المقاومة، قبل أن تتحول أمورها وتدخل في التجاذبات الإقليمية، بعنوان: “الوطن باق والاحتلال الى زوال”، في إجبار الاحتلال على الإنسحاب من مناطق واسعة، بدءاً من الجبل في مرحلة أولى، ثم صيدا والنبطية الى أن بقي الاحتلال في الشريط الحدودي، قبل أن ينسحب نهائياً في عام 2000.
انكسرت لبنانية المقاومة منذ عام 1989، وفق سياسي متابع لمسارها منذ التأسيس. ضعف دور جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية وانحسرلمصلحة المقاومة الإسلامية بقيادة “حزب الله” كطرف وحيد في مواجهة الإحتلال. ففي النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي بدأت سلطة الوصاية السورية بضرب العصب اللبناني الوطني للمقاومة وتحويلها الى أداة إقليمية، ثم إدخالها في حساباتها ومشاريعها، وفي اعتباراتها للصراع العربي – الاسرائيلي، فطوّقت الأطراف المؤسسة للمقاومة، الى أن تراجع دورها وغرق بعضها في رمال الحروب الأهلية الطائفية والمذهبية، وانتهى دورها الإستقلالي وباتت الأمور في مكان آخر، وإن كانت المقاومة الإسلامية بقيت حتى عام 2000 توجه سلاحها الى اسرائيل.
تولى حزب الله المقاومة وانتقلت رايتها الى قوى طائفية صافية. وكان واضحاً أن الدعم إقليمي والإمكانات كبيرة، فيما فقدت القوى المؤسسة للمقاومة الكثير من رصيدها ودورها. وعلى رغم التحرير الذي أنجز في 25 أيار عام 2000 من طريق المقاومة، الا انه عجز عن استثمار التحرير وزوال الاحتلال طريقاً لتوحيد البلد وبناء الدولة وإشاعة الديموقراطية وتنظيم الاختلافات بين اللبنانيين، لا بل أن التساؤل كان عن وظيفة السلاح المقاوم بعد خروج الاحتلال، وبعضه استخدم في الداخل قبل أن يصير “حزب الله” قوة اقليمية وجيشاً بفائض قوة هو نفسه غير الكثير من المعادلات في الداخل السوري.
أين أصبحت المقاومة اليوم؟ المشهد يبدو مختلفاً هذه المرة. شباب من “حزب الله” يتطوعون للقتال في سوريا لمحاربة التكفيريين. ومن بين المقاتلين أيضاً شبان متفرغون في المقاومة، نقلوا بطريقة أو بأخرى، المقاومة من قوة على الحدود الجنوبية مع الاحتلال الإسرائيلي، مهمتها التحرير، الى الحدود الشمالية والى طرف في الصراع السوري. وهذا القتال يجري تحت عناوين مختلفة، لكنه لا يحظى بإجماع لبناني. ومن النقطة التي انطلق منها الحزب بعد توليه المقاومة في أواخر الثمانينات من القرن الماضي أورد مسوغات لاستمرار مهمته القتالية في سوريا، لا تتشكل حول المهمات الوطنية في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي، وهذا ما يطرح أسئلة في ظل التهديدات الإسرائيلية اليومعن إمكان استنهاض تضامن وطني امام مواجهة عدوان اسرائيلي محتمل، فهو تراجع أو بات غير ممكن بعدما ترنح لدى فئات لبنانية واسعة. ويعترف قادة من حزب الله أن المعركة مع الاحتلال الاسرائيلي التي جرت على مدار 18 سنة منذ 1982 وحتى لحظة التحرير في عام 2000، كانت محط اجماع لبناني أو شبه اجماع، فلم تخرج أصوات تقول بإنهاء المقاومة، بالرغم من الانقسام الذي شهده البلد قبل عام 2000.لكن هذه المعادلة تغيرت اليوم.
على مدار التسعينات من القرن الماضي، سقط الكثير من الشباب على طريق تحرير الجنوب، علماً أن التحرير في ذاته أنهى المشروع الإسرائيلي تجاه لبنان وأقفل البوابة الحدودية، في حين أن البعض يصر على أن السلاح المقاوم هو لمحاربة إسرائيل. ونذكر أن المعطيات اختلفت بعد التحرير، ليسقط لبنانيون في مواجهة عدوان 2006، بمعزل عن الالتباس الذي رافق هذه الحرب، لكن ان يسقط شباب في غير المكان الذي جادل “حزب الله” طويلاً في موضوع سلاحه، مدافعاً عن استمرار استقلاله عن معطيات القرار الوطني العام، فذلك يطرح أيضاً بالنسبة الى كثير من اللبنانيين علامات استفهام كبيرة عن استمرار اقحام البلد في أخطار تتمثل في انعكاسات ارتدادية على الداخل اللبناني، الى تغذية الخلافات السياسية القائمة ومفاقمتها بعوامل توتر اضافية.
بالعودة إلى ذكرى انطلاقة “جمول” التي شكلت رداً لبنانياً على الاحتلال، ها هي فكرة المقاومة تفقد خصائصها. فقد قاتل “حزب الله” في الجنوب متسلحاً بخصائص ساحته، لكنه اليوم يفقد هذه الخاصية، إذ أن الداخل اللبناني اليوم لم يعد ساحة للحزب، بعدما فقد جزءاً من “الغطاء المنزلي” الذي تمتع به واستند اليه لسنوات طويلة.اختلف كل شيء في البلد والمنطقة. تحول سلاح المقاومة خلال فترات جزءاً من التوازنات الداخلية اللبنانية، وسلاحاً إقليمياً خلال السنوات التي تلت التحرير عام 2000، وإن كان الجنوب اللبناني قد نعم بمحطات من الاستقرار، لكنه استقرار قلق طالما بقي السلاح جزءاً من المشاريع الإقليمية، وطالما استمرت التهديدات الإسرائيلية ضد لبنان.
تحولت المقاومة إلى نسخة اقليمية منذ زمن بعيد. فهل يستطيع “حزب الله” ترميم ما خسره في منزله اللبناني والساحة الوطنية؟