
رلى موفَّق
القدس العربي
06022022
قبل اغتيال الناشط السياسي لقمان سليم في 3 شباط/فبراير 2021، كانت آلة القتل قد فتكت بثلة من قادة وناشطين سياسيين منذ 2004 وحتى 2013. كان القاسم المشترك بين هؤلاء هويتهم المناهضة لـ«محور الممانعة» الذي تصدّره لسنوات في لبنان النظام السوري، وآل بعد خروجه العسكري منه إلى «حزب الله» الذي يُشكِّل ذراعاً إيرانية. صحيح أن بعض تلك الجرائم، وفي مقدمتها جريمة اغتيال رفيق الحريري أُنشئت لها محكمة دولية خاصة لكشف المُخطِّط والمموِّل والمنفِّذ وإحقاق الحق والعدالة، إلا أن اللبنانيين بغالبيتهم متيقنين من الجهة التي تقف وراء عمليات القتل والتصفية، ومدركين بأن الجرائم السياسية في لبنان تنام على الدوام في الأدراج، تارة نتيجة تقاعس يُبقي ملفات التحقيق فارغة، وطوراً نتيجة التدخلات في القضاء وممارسة ضغوط عليه لطيّ تلك الملفات.
وشهد لبنان 220 اغتيالاً ومحاولة اغتيال منذ استقلاله العام 1943 حتى اغتيال لقمان سليم، وفق إحصاء أجرته شركة «الدولية للمعلومات» للأبحاث والإحصاءات. في الحقيقة، لم يَخرج ملف التحقيق في جريمة سليم عن السياق المتوقّع لجهة تعّمد القوى الأمنية عدم إجراء التحقيقات اللازمة والبحث الجدّي عن خيوط الجريمة، والطلب من الأمم المتحدة المساعدة، ولا سيما أن الجريمة وقعت في نطاق عمليات قوات الطوارئ الدولية شمال الليطاني التي يجب أن تكون منطقة خالية من وجود السلاح والمسلّحين، بما يطال سلاح «حزب الله»، وذلك بناء للقرار الدولي 1701، الذي صدر في أعقاب حرب تموز/يوليو 2006 بين «حزب الله» وإسرائيل.
الجرائم تستفيقُ بقرار!
في ذاكرة اللبنانيين، محاكمة لرئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع في جريمة اغتيال رئيس الحكومة رشيد كرامي، واغتيال رئيس حزب «الوطنيين الأحرار» داني شمعون وعقيلته وولديهما، ومحاولة اغتيال السياسي ميشال المر. تلك الجرائم وقعت بين 1985 و1991 وبقيت في غياهب قصر العدل، ولا سيما بعد صدور قانون عفو عام عقب انتهاء حرب الـ15 سنة، وهو القانون الذي نُظر إليه على أنه صكُّ براءة للميليشيات وزعمائها على كل الارتكابات ودعوة لانخراطهم في السلطة. ولكن حين لفحتْ رياح إقليمية ودولية لمصلحة دمشق، كان تفجير كنيسة سيدة النجاة في ذوق مكايل في شباط/فبراير 1994، وكان اتهام مُعدٌّ لجعجع أدى بدوره، بحكم سقوط مفاعيل العفو العام عنه، إلى فتح ملفات جرائم سياسية سابقة لتنتهي، رغم تبرئته في ملف الكنيسة، إلى اتهامه ومحاكمته والحكم عليه في الملفات الأخرى بأحكام وصلت إلى الإعدام واستبدالها بالسجن المؤبد، قضى منها أحد عشر عاماً في سجن تحت الأرض في وزارة الدفاع. ولم يُطلق سراحه إلا بعد خروج القوات السورية على دماء الحريري الأب، وما أنتجه هذا الاغتيال من انتفاضة شعبية تلاقى فيها المسلمون والمسيحيون على إخراج «الاحتلال» على وقع مناخات إقليمية ودولية ضاغطة على «المحور السوري – الإيراني». خرج جعجع عام 2005 بعفو عام شمل أيضاً خروج مئات من الإسلاميين الذين اعتقلوا بعد أحداث لبست ثوب الإرهاب، ووقعت في الضنية عام 2000، ومجدل عنجر عام 2004 في زمن هيمنة نظام الأسد.
ليس من المبالغة القول إن إقفال الملفات هو قرار سياسي، كما السير بها، كان كذلك على مرِّ السنين وما زال. ما كان المخططون لجريمة اغتيال الحريري يعتقدون فعلاً أنه سيكون لها كل هذه الارتدادات وستصل إلى المحاكم الدولية. كان ظنّهم أن هذه الجريمة السياسية ستُضاف إلى سلسلة جرائم كبرى حصلت على أرض لبنان، من اغتيال لرؤساء جمهورية ورؤساء حكومة وسياسيين كبار ومفتي الجمهورية. وصل الفجور بأن دعا رئيس الجمهورية إميل لحود بعد أيام من اغتيال الحريري، أمام وفد اقتصادي، إلى استئناف الحياة الطبيعية، وأن دعا رئيس مجلس النواب اللجان النيابية إلى الالتئام في اليوم السابع لمتابعة مناقشة مشروع قانون الانتخاب، ولكن سارت الرياح بما لا يشتهي النظام الأمني السوري – اللبناني وحلفاؤه الخلّص. وكانت بداية النهاية لثلاثين عاماً من الوصاية السورية، وكانت لجنة تقصي حقائق دولية فمحكمة دولية خاصة بلبنان. وصدر عن المدعي العام الدولي قرار اتهامي بحق قيادات وعناصر أمنية تابعة لـ«حزب الله» الذي قال أمينه العام إنه لن يُسلِّم أياً من المتهمين مهما طال الزمن أو قصر. وجرت محاكمة غيابية فحُكم المنفّذ الرئيسي سليم عياش الذي لا يزال حراً طليقاً، لا بل رُفعت صور «البطل المقاوم» في بلدته الجنوبية مع لافتات ترحيب به في يوم صدور الحكم. جرى ذلك على مرأى من الدولة وأجهزتها وسلطاتها الأمنية والقضائية وسط صمت مطبق.
لم يمنع إنشاء المحكمة الدولية آلة القتل السياسي في لبنان. توقفتِ الاغتيالات لفترات جرّاء تسويات أو حالات ربط نزاع في بعض المراحل ما بعد 2004. عادت عملية القتل والتصفية من جديد، وسط شكوك قوية أن ثلاث عمليات من أربع مرتبطة بشكل أو آخر بجريمة تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس 2020 تلك الجريمة التي دمَّرت نصف المدينة، وأوقعت ما يزيد على مئتي قتيل وستة آلاف جريح.
4 جرائم في عام
والرابط مجهول معلوم
وتقول منظمة «هيومن رايتس ووتش» في تقرير أصدرته، عشية الذكرى الأولى لاغتيال سليم، إنها راجعت التحقيقات الأولية التي أجرتها «شعبة المعلومات» التابعة لـ«قوى الأمن الداخلي» تحت إشراف النيابة العامة في أربع جرائم قتل يُزعم ارتكابها على يد مجموعات لها صلات سياسية أو ذات نفوذ سياسي. وَجدتِ المنظمةُ أن التحقيقات لم تُحَدَد أي مشتبه به أو دوافع. وأوردتْ تلك القضايا، وهي: قضية سليم الذي كان ينتقدُ «حزب الله» لفترة طويلة، وقُتل في 3 شباط/فبراير 2021؛ وجو بجاني، موظف اتصالات ومصوّر عسكري هاوٍ اغتيل بالرصاص في 21 كانون الأول/ديسمبر 2020؛ والعقيد منير بو رجيلي، ضابط جمارك متقاعد عُثر عليه جثة في منزله في 2 كانون الأول/ديسمبر 2020 جراء إصابته بآلة حادة في رأسه؛ وأنطوان داغر، رئيس قسم الأخلاقيات وإدارة مخاطر الاحتيال والرئيس السابق لوحدة الامتثال في «بنك بيبلوس» الذي طُعن حتى الموت في 4 حزيران/يونيو 2020. نَسَـبَ تقرير المنظمة إلى شقيقة داغر قوله لها إنه كان يعمل على قضية احتيال كبرى.
الاعتقاد السائد لدى بعض المراقبين أن جريمة داغر لها علاقة بطبيعة وظيفته. وهو كان مِن قبل يرأس وحدة الامتثال في البنك، وهو عمل تعتريه مخاطر كونه قد يُصيب الحسابات التي تدور حولها شبهات تبييض أموال أو تمويل إرهاب وما يرتبط منها بشبكة «حزب الله» المالية التي تُلاحقها وزارة الخزانة الأمريكية، فيما الجرائم الثلاث (سليم، وبجاني، وأبو رجيلي) تأتي على خلفية إزاحة شهود أو أدلة أو إسكات أصوات تؤشِّر صوب الجهات المتورطة بنتيرات الأمونيوم.
القدر في الوقت المستقطع
كان سليم قد اتهم في آخر مقابلة له «حزب الله» بالإتيان بنيترات الأمونيوم لحساب النظام السوري الذي استخدمها في صناعة البراميل المتفجرة التي كانت تُلقيها طائرات النظام على المدنيين في مناطق المعارضة السورية. قد تتعدّد الروايات التي تقف وراء مقتل سليم، ومنها أنه كان محسوباً في علاقاته على الأمريكيين، وأنه قُتل في وقت مُستقطع بين إدارة أمريكية راحلة وأخرى آتية، لكنها تتقاطع على أن الرجل كان صاحب قلم وفكر ورأي، وباحثاً وناشطاً سياسياً لم يفقه إلا لغة الكلمة والعلم والثقافة والمقارعة بالكلمة، وبالعمل على نشر الانفتاح والوعي عبر مبادرات في البيئة الشيعية التي ينتمي إليها، والتي كان يرى أنها أَضحت بيئة مختطفة تتم أدلجتها بما لا يُشبه ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
وسليم الذي وُجد مقتولاً في سيارته بست رصاصات، واحدة في الظهر وخمس في الرأس، بعدما كان في زيارة صديقه في الجنوب، هو كاتب وناشر، وشارك مع شقيقته رشا في تأسيس «دار الجديد»، وأسَّس وزوجته الألمانية مونيكا مع «بورغمان» مركز «أُمم للتوثيق والأبحاث» الهادف إلى التعامل مع ذاكرة الحرب لتنقيتها واستخلاص العِبَر منها لمستقبل خالٍ من العنف المتجدّد وثقافة الإفلات من العقاب.
كان ناشطاً فاعلاً في ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر. وتعرَّض للتهديد وكُتبتْ على جدران دارته في حارة حريك في الضاحية الجنوبية شعارات منها: «المجد لكاتم الصوت». كانت خيمة «المُلتقى» التي نُصبت في ساحة الشهداء، خلال الثورة، مكاناً للنقاشات السياسية والفكرية، وقد أُحرقتْ مِن قِبل جماعة تنتمي إلى «قوى 8 آذار» على خلفية اعتراضها على ندوة حول «حياد لبنان»، متّهمة المنظمين بالتشجيع على التطبيع مع إسرائيل.
تقاعس «شعبة المعلومات»
رغم القدرات التقنية
واعتبرت باحثة لبنان في «المنظمة» آية مجذوب أن «جرائم القتل التي لم تُحلّ، والتحقيقات المُعيبة فيها، تُذكِّر بالضعف الخطير لسيادة القانون في لبنان في مواجهة النُخب والجماعات المسلّحة غير الخاضعة للمساءلة». ولفتت إلى أن «قوى الأمن والقضاء، التي تحظى في أحيان كثيرة بتمويل سخيّ وتدريب من الدول المانحة، لديها القدرات التقنية للتحقيق في جرائم القتل، لكنها تقاعست عن تحديد أي مشتبه بهم في هذه القضايا الحسّاسة أو اتباع خيوط تحقيق واضحة».
و»شعبة المعلومات» في قوى الأمن الداخلي، التي أجرت جميع التحقيقات الأربعة، هي جهاز يحظى برعاية غربية متقدمة ويتمتع بتقنيات عالية ومقدرات رفيعة. ونجح في مهام عدة، في مقدمها تفكيك شبكات تجسّس إسرائيلية وكشف شبكات إرهابية. في زمن رئيسه اللواء وسام الحسن، اكتشف نحو 30 شبكة من المتعاملين مع إسرائيل، وقبل أيام كَشفتْ وسائل إعلام لبنانية عن تفكيك «الشعبة» لـ17 شبكة تجسّس لصالح إسرائيل. وقبل سنوات، نُسب لـ«الشعبة» إنجاز كشف مخطّط نقل متفجرات كان يقوم به الوزير الأسبق ميشال سماحة من سوريا إلى لبنان، ومحاولة تجنيده أشخاصاً لزرعها في أماكن دينية شمال البلاد لخلق فتن طائفية تزعزع الاستقرار. وإلى كثير من الإنجازات، سُجِّل لـ«الشعبة» أخيراً تحريرها طفلاً في الثانية عشرة من عمره في أقل من 24 ساعة على اختطافه من محل تجاري فيما كان برفقة والدته للتسوّق في منطقة حالات الواقعة على الساحل الشمالي بين مدينتي جونيه وجبيل، ما يعني أن هذا الجهاز لديه الكفاءة والقدرة على اكتشاف جرائم خطف وقتل وعمليات معقدة إذا كانت هناك مواءمة سياسية. حتى إن وزير الداخلية الأسبق نهاد المشنوق أعلن في غير مناسبة أن «شعبة المعلومات» توصّلت إلى كشف جريمة اغتيال رئيسها وسام الحسن الذي استُهدف في قلب الأشرفية على مقربة مِن مقر عمله بتفجير سيارة مفخخة في أكتوبر/تشرين الأول 2012، لكن لم يتمّ الإعلان عن الجهة المنفّذة تحت شعار «الحفاظ على السلم الأهلي».
لا استهجان بعد
«فظائع تحقيق المرفأ»
ما عاد أي أمر مُستهجن في لبنان، فالتحقيق في جريمة تفجير المرفأ الذي وُصِف بأحد أكبر الانفجارات غير النووية في العالم يشهدُ كل أنواع العرقلة بغية تعطيله، وتنهال الدعاوى على اختلاف أنواعها على القضاء بهدف إزاحة المحقق العدلي القاضي طارق البيطار عن القضية. ولم يُوفِّـر «الثنائي الشيعي» وسيلة إلا وحاول اللجوء إليها لـ«قبع البيطار» بعدما توجَّس من أن يكون التحقيق وسيلة لاستهدافه تقف وراءه جهات خارجية. نظرية يتمُّ العودة إليها ثانية بعدما خَبر «الحزب» وضعاً مماثلاً مع جريمة اغتيال الحريري، ووجَهت له اتهامات سياسية في جرائم اغتيال قادة قوى «الرابع عشر من آذار»، ويتمُّ اتهامه سياسياً وشعبياً، مباشرة ومواربة، في الجرائم الأربع الأخيرة. سبق لسليم أن أصدر بياناً، بعد تلقّيه تهديدات، حمَّل فيه نصر االله، ورئيس «حركة أمل» نبيه بري، الذي يشغل منصب رئيس مجلس النواب، مسؤولية تعرّضه هو أو عائلته للأذى.
ولم تُخفِ السيدات الثلاث (والدته سلمى مرشاق، وزوجته مونيكا، وشقيقته رشا) هوية مَن يظنون بالحدس والعقل والمنطق أن يكون القاتل. مُعبِّـرٌ قول الأُم الأَديبة في ذكرى ولدها الأولى: «حزب الله بحسب شعوري هو مَن قتل ابني، لقد خسر مثقفاً كبيراً ومحاوراً صادقاً»، لكنه يبقى قولاً ما دام ليس هناك رسمياً مِن تحقيق ومُتهم ومحاكمة وحُكم يُمكن البناء عليه، كما في جريمة اغتيال الحريري، حيث تحل في الرابع عشر من شباط/فبراير الحالي الذكرى السابعة عشرة لذلك «الزلزال» الذي ضرب لبنان، ولا يزال يعيش ارتداداته، ولا يزال الإفلات من العقاب هو الحاضر الأقوى.