المدن – ثقافة|الثلاثاء16/10/2018
Almodon.com

ما بين 1890 و1910 توجه أكثر من ثلاثة آلاف مهاجر لبناني إلى لورنس في ولاية ماساشوستس، وهي مدينة صناعية تقع ضمن منطقة معامل النسيج في شمال شرق الولايات المتحدة. أصبحت مدينة لورنس، نتيجة هذا التدفق الكبير للمهاجرين، ثاني أكبر تجمع للجالية اللبنانية (او السورية كما كان يطلق عليها سابقاً) بعد مدينة نيويورك، ومن الأكبر في العالم…
اختار المهاجرون مدينة لورنس لسببين رئيسيين: يندرج الأول في إطار سهولة الحصول على فرص عمل في معامل المدينة، ويُعزى الثاني إلى ما كانوا يسمعونه من أخبار الذين سبقوهم من المهاجرين. فالمهاجرون اللبنانيون، شأنهم شأن الملايين ممن هاجروا إلى الولايات المتحدة من أوروبا والشرق الأوسط، كانوا يبحثون عن عملٍ لفترة قصيرة يعودون من بعده إلى أوطانهم حاملين أموالاً وثروات تضمن لهم مركزاً اجتماعياً مرموقاً وحياةً أفضل. وكانت مدينة لورنس غنية بفرص عمل كهذه.
علم سكان القرى والمدن على طول شرق المتوسط عن فرص العمل هذه في لورنس من مصادر مختلفة. فبعضهم انجذب إلى الاعلانات وحملات الترويج والدعاية التي كانت تقوم بها الشركات الاميركية والمدن الصناعية من خلال وكلاء التوظيف والمندوبين. غير أن العامل الأكبر في توجه أغلب المهاجرين اللبنانيين نحو مدينة لورنس، هو ما كانوا يسمعونه من أخبار الذين سبقوهم من المهاجرين. على سبيل المثال، تذكر فكتوريا خطار “كان لدينا خالاً يعيش في لورنس وسألنا فيما لو كنا نرغب بالقدوم، وهكذا حصل…”.
سوريا الصغرى
استقرت غالبية المهاجرين على طول شارع فالي ستريت، أو في منطقة پلينز، التي تضم المناطق العليا من (إلم)، و (أوك)، وشستنت المحصورة بين شارعي هامپشير ولورنس. وكانت هذه المناطق والأحياء على مسافة قصيرة من المعامل الواقعة على طول نهر مريماك حيث كان يعمل أغلب المهاجرين. ويقول إبراهيم بشارة أنه كان باستطاعتك أن تنظر على طول الشارع في القسم اللبناني من منطقة پلينز “ولن ترى أحداً مختلفاً عنك”.
شأنهم شأن غالبية سكان مدينة لورنس (حوالي 52%)، فإن معظم المهاجرين اللبنانيين استأجروا غرفاً في مبان سكنية. وقد وصف استبيان أجري العام 1911 الظروف المعيشية هذه بـ “حمى الاكتظاظ”، تعبيراً عن الكثافة السكانية لهذه الأحياء والمناطق، بالإضافة إلى حالات المرض والموت التي كان يعيشها المهاجرون القاطنون في هذه المباني. ومع مرور الوقت، قام مالكو الأراضي والعقارات (وكان من بينهم مهاجرون لبنانيون) بتشييد مبان أكثر ارتفاعاً وقرباً من بعضها البعض بهدف زيادة أرباحهم، مما ادى إلى تدهور أحوال المساكن هذه التي كانت تعاني اصلاً من رداءة الإنارة وسوء التهوية. إضافة إلى ذلك، ومن أجل خفض الكلفة، شيدت غالبية هذه المباني من الخشب، ما جعلها عرضةً للحرائق التي من الممكن أن تنتشر بسرعة ضمن هذه المجمّعات المكتظة بساكنيها.
الجالية اللبنانية في لورنس: 1900 – 1930
أخذت الهجرة اللبنانية إلى مدينة لورنس بالازدياد في العام 1910. وكان المستثمرون العقاريون اللبنانيون، أمثال جوزيف صليبا، يشترون قطعة ارض في شارعي إلم وأوك، ويشيدون فيها المباني السكنية، ومن ثم يؤجرون الغرف إلى مواطنيهم من المهاجرين حال وصولهم إلى المدينة للعمل في المعامل. وشهد العام 1920 ذروة الاستقرار اللبناني في مدينة لورنس. لكن قوانين الهجرة التي وضعتها الحكومة للحد من الهجرة غير الأوروبية أوقفت تدفق ووصول غالبية المهاجرين اللبنانيين.
اكتظ الحيّان بالمهاجرين اللبنانيين، ما دفع بعضهم إلى مغادرة هذه المناطق. وبحلول العام 1930، بدأت أعداد الجالية اللبنانية في مدينة لورنس بالتراجع. وأخذ بعض المعامل، خلال العشرينات من القرن الماضي، يغلق أبوابه وأعماله، وذلك مع انتقال صناعة النسيج إلى جنوب الولايات المتحدة، واستقرار المهاجرين ممن يستطيعون تحمل كلفة السكن في مناطق أخرى مثل مدينة ميثوين في ولاية ماساشتوستس. إلا أن بعض المهاجرين رحلوا إلى أبعد من لورنس، باحثين عن فرص في مناطق أخرى في الولايات المتحدة، بينما قرر آخرون العودة إلى لبنان بشكل نهائي.
ونتيجة سوء الظروف المعيشية، إضافة إلى ظروف العمل الصعبة، بلغ معدل الوفيات 70% بين العاملين في مدينة لورنس، بسبب الالتهابات الرئوية (النزلة الصدرية)، والتدرن الرئوي (السل)، وغيرها من الأمراض التي تصيب الجهاز التنفسي. وبلغ معدل عمر المتوفين من المهاجرين اللبنانيين 25 عاماً، ما بين 1895 و1912. وقد كان هذا عاملاً مؤثراً عفي نمو عائلات المهاجرين، فقد كانت نسبة 44% من الوفيات في مدينة لورنس لأطفال دون سن الثانية. وما بين 1910 وأواخر العشرينات من القرن الماضي، فقدت أديل ملحم، وهي مهاجرة لبنانية، سبعة أطفال قبل أن ترزق باثنين تمكنا من البقاء على قيد الحياة. وتذكر ابنتها “لقد فقدَت طفلها الأول ومرضت جداً… وتوفي اثنان جراء الاصابة بالحصبة والدفتيريا (الخناق)، وكان عمر الأول عاماً واحداً، والثاني عامين ونيف… وعانت أيضاً من مشاكل وصعوبات في الولادات اللاحقة… وسقطت في طريقها إلى العمل نتيجة عاصفة ثلجية… لم تستطع الولادة … وولد الجنين ميتاً”.
العمل في المصانع
لم تختلف ظروف المعامل وأحوالها عن تلك التي في المباني والمساكن. فقد كان العمل في معامل النسيج في مدينة لورنس في بدايات القرن العشرين شاقاً وخطيراً. شكلت الحوادث الصناعية تهديداً مباشراً، بينما ساهمت رداءة الظروف الصحية وسوء التهوية بزيادة معدل الوفيات والاصابة بالأمراض التنفسية بين العُمّال في المصانع. وأدت عوامل أخرى إلى سرعة انتشار هذه الأمراض. مثلاً، كان خليل عيد، وهو من العمال المهاجرين، يخبر أطفاله بأنه كان يعلق غداءه “من السقف [كل يوم في المعمل] حتى لا تصل [إليه] الجرذان”.
لم يكن غريباً، في ذلك الوقت، على النساء اللبنانيات، أمثال أديل ملحم (والدة جولييت بستاني) وغيرها، أن يشتغلن كعاملات في المصانع. في الواقع، وفي بداية القرن العشرين، فاق عدد النساء في معامل لورنس عدد الرجال. فكانت الكلفة الباهظة للمعيشة، وكذلك استقطاعات الرواتب، دافعاً لكافة أفراد العائلة إلى العمل لتأمين لقمة العيش. على سبيل المثال، في العام 1910، كان 50% من النساء اللبنانيات فوق سن الرابعة عشرة يعملن في مصانع النسيج. وبالنسبة إلى كثيرٍ منهن، فإن انتهاء العمل في المصانع كان يعني بداية مسؤوليات ومهام أخرى في المنزل. عندما لم تكن أديل في المصنع، كانت “تعمل في متجر [زوجها] صباحاً… وتعود إلى المنزل حوالى الساعة العاشرة مساءً، وتقوم بالأعمال المنزلية ما بين العاشرة ومنتصف الليل، ثم تنام، وتستيقظ عند الخامسة. كان عليها أن تستيقظ في الخامسة، لأنه إضافة إلى المزيد من الأعمال المنزلية، كان عليها أن تعد الطعام، وكان الطعام نفسه كل يوم، فهي لم تكن موجودة في المساء لإعداد العشاء […] وهذا ما كان حاضراً على الموقد”.
ومن أجل توفير دخل إضافي للعائلة، كان العديد من اللبنانيين المهاجرين يرسلون أولادهم إلى العمل حال بلوغهم سن الرابعة عشرة (وهو الحد القانوني الأدنى لسن العمل). وفي فترة الإصلاحات، كان المسؤولون يحاولون الحد من ظاهرة عمالة الأولاد بالطلب من أصحاب العمل تقديم وثائق تثبت أن العمال في عمر يسمح لهم بالعمل. وبالرغم من هذه الإجراءات، إلا أنه كان من السهل فبركة هذه الوثائق وتزييفها. لم تكن عمليات التدقيق وسجلات الدولة آنذاك كما هي عليه اليوم، ففي بداية القرن العشرين كانت السجلات والقيود لا تزال ابتدائية وبسيطة، وكانت غالبية الوثائق والبيانات التي يقدمها المهاجرون مكتوبةً باللغة العربية وتتم ترجمتها (بأخطاء احياناً) من قبل اصدقاء على استعداد لتزوير الشهادة.
واعتبرت الصحف العربية الصادرة في الولايات المتحدة، عمالة الأطفال، أزمة ومشكلة اجتماعية يجب تسليط الضوء عليها. فقد جاء في صحيفة الهدى (إحدى الصحف المقروءة بشكل واسع): “إن أهم ما وجدنا في مدينة لورنس ونريد انتقاده استعاضة الاكثرية عن العلم بالعمل مع الصغار. اننا لا نود أن نذكر كيف يدخل هؤلاء الصغار المعامل ومن يدخلهم فيها أو يشهد بأعمارهم مأجوراً ومأزوراً… إنما نريد أن نبين للأبناء وللشعب مضار العمل للصغار لا سيما من كانوا بأعمار أولاد لورنس السوريين الذين منهم من لم يتجاوز الثامنة من عمره”. وصوّرت الصحيفة هذه المعامل على أنها مكانٌ غير أخلاقي مليء بالمؤثرات السلبية والسيئة التي تعمل على إفساد الشباب في المجتمع.
في الوقت الذي عملت النساء والأطفال في المعامل لتوفير دخل إضافي للعائلة، حاول العديد من المهاجرين اللبنانيين الرجال تجنب العمل في هذه المصانع والهرب منها. فقد حمل هؤلاء معهم من لبنان فكرة سلبية عن عمل المصانع: هناك كانت الكرخانة (أو معمل الحرير) من الصناعات الرئيسية، وكانت غالبية (90%) من الذين يعملون في هذه المعامل من النساء اللواتي ينظر إليهن المجتمع المحلي على أنهن ذوات سمعة سيئة. ومن الناحية الأخرى، فإن الأفكار المحيطة بعمل المصانع في أميركا لم تختلف كثيراً عن لبنان. يكشف لنا المؤرخان المتخصصان في الشؤون العُمالية، جيمس باريت وديفيد روديجر، بأنه في أوائل القرن العشرين كانت تغلب على العمل في المصانع “سِمَتا العنصرية والازدراء”. حيث كانت تُستخدم في المعامل لغة عنصرية مهينة تُحطّ من قدر العمال، خصوصاً أولئك من ذوي البشرة السمراء والمجموعات العرقية الأخرى من المهاجرين، مثل سكان دول المتوسط وأوروبا الشرقية.
وتخبرنا جولييت بستاني عن والدها أنه: “لم يعجبه العمل في المعامل على الإطلاق. فلم يكن لديه الصبر ليعمل تحت امرة أي شخص. والعديد من الرجال اللبنانيون كانوا على هذه الشاكلة”، إضافة إلى أنهم، كما مرّ اعلاه، لم يرغبوا في العمل في بيئةٍ تنتقص وتحط من شأنهم وعِرقهم. كان والد جولييت يدير دكان بقالة، يلبي من خلاله احتياجات الجالية اللبنانية في منطقة پلينز، في حين كانت تعمل زوجته كل يوم في المصنع لتأمين دخل إضافي للعائلة. أما جورج بشارة، وهو مهاجر آخر، فقد ترك العمل في المعامل بعد إضراب العام 1912، وحصل على وظائف عديدة لم ينجح في أي منها. وفي النهاية، وليوفر دخلاً إضافيا لزوجته وعائلته، عاد مجبراً للعمل في معمل أركاديا (Arcadia)، وحصل ايضاً على عمل إضافي في معمل پاسيفيك (Pacific) في مدينة لورنس.
وعانى المهاجرون اللبنانيون الرجال، خصوصاً في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، صعوبة إيجاد فرص عمل خارج إطار المصانع. وعاد بعضهم، أمثال بشارة، إلى المعامل بسبب الرواتب الثابتة التي يوفرها العمل فيها. يقول روبرت حاتم عن والده “كان يعمل في المصنع … هذا ما كان يقوم به الآباء في ذلك الوقت بسبب الظرف الاقتصادي”. لكن على الرغم من هذه الحاجة الماسة للعمل، فقد وجد العديد من الرجال المهاجرين صعوبةً في التعريف بأنفسهم كعمال مصانع. وتشير سالي العقل إلى ان والدها “لم ير نفسه عاملاً في معمل” على الإطلاق بالرغم من عمله هناك لأكثر من عشرين عاماً. ونظراً لهذه الثقافات السائدة (الأميركية واللبنانية) التي ربطت العمل في المعامل بالمرأة والعرق غير الابيض، فقد توّلد لدى الرجال اللبنانيين توتراً وصراعاً ما بين توفير الدعم والدخل لأسرهم من خلال هذا العمل في المصانع، وبين إيجاد عملٍ آخر يوافق أكثر تطلعاتهم الاجتماعية وكذلك الشخصية.
المجتمع
كان الناس في مدينة لورنس يعيشون ويعملون ويقيمون علاقات اجتماعية ضمن أحيائهم القريبة فقط. فبعد أيام العمل الطويلة في المصانع، أو في أيام الأحد، كانت الزيارات، كما يصفها سليمان حاتم، “هي وسيلة التسلية [بين المهاجرين]، وكانت أغلبها في المساء، ويصطحب الناس معهم [أولادهم] … وأقرباءهم وأبناء عمومتهم أو أخوالهم وأصدقاءهم والخوارنة… ولم يكن هناك من يقوم بمهمة مجالسة الأطفال لكن في حال وجود أولاد أكبر سناً في العائلة [عندها تقع هذه المهمة على عاتقهم]”.
قدمت الكنيسة ايضاً فرصةً ومجالاً آخر للحياة الاجتماعية بين المهاجرين، إضافة إلى العائلة والأصدقاء. وكان معظم المهاجرين اللبنانيين ينتمون إلى إحدى الطوائف المسيحية الثلاث في المدينة: أما كنيسة سانت جوزيف للروم المِلكيين الكاثوليك (مار يوسف)، أو كنيسة سانت أنتوني المارونية (مار أنطونيوس)، أو كنيسة سانت جورج الارثوذكسية (مار جرجس). في حين انتمت نسبة قليلة منهم إلى الطائفة البروتستانتية، وكان هؤلاء يحضرون الكنائس الأميركية المحلية. وعلى الرغم من عدم وجود وثائق وبيانات تبين وجود مسلمين أو دروز بين عمال المصانع في مدينة لورنس، لكن ذلك لم يكن بالأمر المستبعد.
وبعد مرور عشر سنوات على استقرار الجالية اللبناني في مدينة لورنس، أنشأ بعض أفرادها نوادي اجتماعية وجمعيات خيرية. وفي كثير من الأحيان تفرعت هذه من أخويات دينية وإنهمكت، من خلال رسوم العضوية، في تقديم المساعدة والرعاية الاجتماعية للمهاجرين في أوقات الشدة كالمرض أو البطالة او عند فقدان أحد أفراد العائلة. على سبيل المثال، تأسست في العام 1907 الجمعية السورية الخيرية المتحدة من قبل أعضاء كنيسة مار يوسف، وخصصت الجمعية مكاناً لعقد الاجتماعات واللقاءات بين اللبنانيين، وشيدت مقبرة لتكون “مدفناً لائقاً لكل من ينطق بالعربية ضمن مجتمع المهاجرين”. وكانت تقع هذه الجمعية في شارع أوك، أما المقبرة فكانت بالقرب من مدينة أندوفر (Andover) وكانت تعتبر أول مقبرة “سورية” في الولايات المتحدة الأميركية. وتأسست لاحقاً نوادٍ أخرى مثل الجمعية السورية الوطنية في العام 1912، ونادي شباب دير القمر.
إضراب 1912
تعززت الروابط الاجتماعية، وكذلك حدة التوترات بين المهاجرين، أثناء فترة إضراب 1912، الذي يعرف ايضاً باسم “إضراب الخبز والورود”، وهو من أكبر الإضرابات العمالية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
أضرب عمّال معمل ايفيريت في 11 كانون الثاني/يناير1912، احتجاجاً على الإنخفاض المفاجئ في الرواتب التي لم تكن جيدةً في الأساس. فقد أصدر المجلس التشريعي في ولاية ماساشوستس، أواخر العام 1911، قانوناً يقضي بخفض الحد الأعلى من ساعات العمل خلال الأسبوع، من 56 إلى 54 ساعة. وعلى أثر ذلك، قام أصحاب معامل النسيج بخفض رواتب العاملين. كان العمال، خصوصاً المهاجرون الجدد منهم، يعتمدون على الراتب الأسبوعي هذا ويعولون عليه. وبعد تقليل ساعات العمل، وإن فقط لساعتين في كل أسبوع، باتوا في موقف صعب وغير مستقر، غير قادرين على تلبية احتياجات الأكل ونفقات المسكن.
وفي غضون أيام، انتشر الإضراب كالنار في الهشيم، في معامل النسيج في المدينة، خصوصاً بعد حصول العمال على ظروف الرواتب المنخفضة. وعلى إثره، ترك قرابة 23 ألفاً من عمال المصانع، العمل، وانضموا إلى الاضراب، وكانت غالبيتهم من المهاجرين. قاد الإضراب ممثلون عن منظمة العمالة الدولية في العالم (I.W.W). وشارك أكثر من ألف من العمال اللبنانيين في الإضراب أو تأثروا بتوابعه بشكل مباشر.
شكل ممثلون عن المهاجرين لجنة إضراب محلية. وقد مثّل الجانب اللبناني في الاحتجاج كل من فارس مراد، وجيمس بروكس، والدكتور اسكندر حجار، وهو طبيب أسنان. وقد تورط مراد في واحدة من الأحداث المشهورة في فترة الإضراب، عندما كشفت الشرطة عن وجود متفجرات (ديناميت) في محل الخياطة التابع له. واعتقلت الشرطة مراد، بدعوى تورطه مع عناصر متطرفة في الإضراب، تابعةٍ لمنظمة العمالة الدولية. غير أن تحقيقات أجرتها المنظمة لاحقاً أفادت بأنه في اليوم الذي سبق هجوم الشرطة، وعندما كان مراد يقود “مجموعة الحملة السورية” في مسيرة مؤيدة للمحتجين، قام جون برين وهو حانوتي محلي بوضع هذه المتفجرات لإلصاق التهمة بمراد وإفشال عمل المتظاهرين.
كان جون برين يعلن عن خدماته في جريدة الوفاء السورية المحلية. وبرين على علاقة بويليام وود، احد اصحاب المعامل. وكان يشتبه في وضع برين المتفجرات في محل فارس مراد لغرض تقويض عمل المتظاهرين من خلال تشويه سمعتهم.
وبالإضافة إلى مراد، كان اللبناني جيمس بروكس، ممثلاً للجالية اللبنانية في فرع منظمة العمالة الدولية منذ العام 1911. وفي الأيام الأولى لإضراب 1912، دعا بروكس السيد جوزيف ايتور، وهو مهاجر من أصل إيطالي وكان له دور مهم في تنظيم الإضراب، ليتحدث في إحدى الكنائس اللبنانية، وكانت على الأرجح كنيسة مار يوسف التي كانت ترتادها أسرة بروكس.
وبعيداً من الممثلين الثلاثة في لجنة الاضراب، كانت الجالية اللبنانية ككل (من أصحاب المتاجر إلى العائلات في المنازل) تغلي خلال فترة الإضراب، وانقسمت الجالية ما بين مؤيد ومعارض. على سبيل المثال، قامت سعدية زمون، دعماً منها للمتظاهرين، بتوبيخ العمال غير المحتجين وتعنيفهم ومنعهم من العودة إلى العمل. وبحسب بعض الشهود فقد كانت ترمي النفايات والماء الساخن على كل من يحاول افشال الإضراب عند مرورهم من أمام منزلها في شارع إيلم رقم 390، وكانت تشتمهم لعودتهم إلى العمل واعاقتهم تقدم المتظاهرين. وقد انضمت ابنتها سوزي، وهي عاملة صغيرة السن، إلى الصفوف الاولى للمحتجين في حين ظلت سعدية تراقب الوضع من الطابق الثاني لمبناهم.
كانت المنشورات، تشجع العمال على الاستمرار في الإضراب، وتعيب على اولئك المتقاعسين غير المشتركين. وضحّى العمال برواتبهم ووظائفهم من اجل أن يتحدوا ويطالبوا برواتب أفضل. إلا أن موقف المتقاعسين، أو أولئك الذين عادوا إلى العمل اثناء الاضراب، أضعف جهود المتظاهرين وأثّر على فاعلية الاضراب من خلال ابقاء المعامل مفتوحة والعمل مستمراً في الوقت الذي خرج فيه العديد من العمال للتظاهر.
ووفرت إحدى الكنائس اللبنانية مطبخاً مجانياً، حيث كانت السيدات يطعمن المتظاهرين وأسرهم كذلك، ويوفرنّ المأوى للمحتجين. وأطعم المطبخ ما يقارب 150 شخصاً وجبتين كل يوم، من الخبز، والبرغل والفاصوليا والقهوة.
كان لجريدتين عربيتين مواقف متضاربة من الإضراب. فقد كتب محرر جريدة الهدى نعوم مكرزل بتاريخ 23 كانون الثاني، مقالاً افتتاحياً مهاجماً فيه المتظاهرين والمحتجين، وناصحاً اياهم بالرجوع إلى القانون، والابتعاد عن الأنشطة “الاشتراكية”. وذكر مكرزل في مقالته أن مجموعة المتظاهرين “السوريين” تم “خداعهم” من قبل محرضين خارجيين من أجل المشاركة في الاضراب، وأضاف أن هذه الأعمال والسلوكيات قد انعكست بشكل سلبي على كافة “السوريين” في عموم البلاد. ورداً عليه، وجهت مرآة الغرب التي انشأها نجيب دياب، وهي الخصم اللدود لجريدة الهدى، انتقاداً شديد اللهجة في مقال بقلم “السوريون المضربون”، جاء فيه: “توقفوا، فأنتم المخادعون، إن العمال رجالٌ يستطيعون الدفاع عن حقوقهم ويعلمون الحق والصواب أفضل منكم، وهم ليسوا بحاجة اليكم للدفاع عنهم”. وذهب المقال أبعد من ذلك، بأن شكك “بالحقائق” التي ذكرها مكرزل حول نسبة العمال المشاركين في الإضراب. وأشاروا في النهاية إلى احتمال أن يكون مكرزل مدفوعاً له من قبل ويليام وودز “وول”، وهو من أكبر أصحاب المعامل في لورنس.
وفي الرابع عشر من آذار 1912، بعد مرور شهرين تقريباً على بدء الإضراب، جلس قادة الاضراب وعمال المعامل إلى مائدة المفاوضات، وصوّت 15 ألف عامل على إنهاء الإضراب، وأعطيّ العاملون زيادة في الرواتب تتراوح ما بين 5% و20%، وهي الخطوة التي سرعان ما أدت إلى رفع الرواتب في معامل النسيج في عموم شمال شرق الولايات المتحدة. وبعد ستة اشهر، شهدت لورنس أول مسيرة بعنوان “الله والوطن” تعبيراً عن شعور الوطنية والمواطنة والطاعة، في محاولة من قبل الطبقة الحاكمة لمحي صور “التطرف” التي انتشرت خلال الإضراب. وبحلول العام 1913، انخفض عدد أعضاء منظمة العمالة الدولية في مدينة لورنس إلى بعض المئات، بعدما كانت تضم ما يقارب 14 ألف عضو أثناء فترة الإضراب، واختفى على اثر ذلك الفرع “السوري” للمنظمة في المدينة.
شعر المهاجرون بعد انتهاء الإضراب في مدينة لورنس بضغوط اجتماعية، والحاجة إلى أن يظهروا بصورة أكثر “اميركيةً” وأقل “أجنبية”-إن صح التعبير. فقد خلقت المشاعر العدائية المتزايدة تجاه المهاجرين، وتصاعد الوعي عن الإضراب العمّالي الأخير في المدينة، وكذلك رغبة المهاجرين بأن يحذو ابنائهم طريقاً آخر غير الذي سلكوه هم أنفسهم، حالةً من الانشقاق والانقسام بين أجيال المهاجرين المختلفة.
وبالنسبة إلى المهاجرين اللبنانيين، لم يكن التعليم سوى وسيلةً لكسر العوائق والحواجز اللغوية وفرصةً للخروج من المعامل، فقد حال عدم معرفة المهاجرين للغة الانكليزية من دون حصولهم على فرص عمل أخرى مختلفة ومتنوعة. ويتذكر انطوان رامي، المولود في مدينة لورنس العام 1906، بأن “القليل من المهاجرين [كانوا] يتحدثون اللغة الإنكليزية”، فقد سهّل قرب المهاجرون ومساكنهم من بعضهم الحديث بلغتهم العربية فقط.
وعلى الرغم من هذا، لم يتقاعس بعض المهاجرين الاوائل عن تعلم اللغة الانكليزية، بل على العكس. يقول أنطوان رامي بأن والدته تعلمت اللغة الانكليزية حتى تستطيع العمل في متجر زوجها. ويذكر الدكتور سليمان خياط، بأن والده كان “يذهب إلى المدرسة المسائية… مثله مثل الكثيرين من المهاجرين [اللبنانيين]، فقد التحق العديد منهم بالمدرسة المسائية [في المدينة] ليتعلموا القراءة والكتابة باللغة الانكليزية، وليفهموا اللغة بشكل أفضل”.
بالمقارنة مع ابائهم، فقد رأى الجيل الثاني من المهاجرين أن الأهم هو إجادتهم اللغة الانجليزية والابتعاد عن اللغة العربية، بسبب نمو العداء حيال المهاجرين وانماطهم “المختلفة” من قبل المجتمع الأميركي. لكن الضغوط الاجتماعية وحالة العداء لم يكونا الدافعين الوحيدين وراء الاندماج في الحياة الأميركية. فكانت الحكومة الأميركية تعتبر الحركات العمالية، إجمالا، خطرا خلقته السياسة المعادية لأميركا. وأصبحت مدينة لورنس بعد إضراب العام 1912 رمزاً رئيسيا للتهديد “الشيوعي”. وأصبح مجتمعها المهاجر النابض والمتعدد الثقافات نقيضا لرؤية الأميركيين البيض من الطبقات الوسطى والعليا للمجتمع الأميركي. وعززت الثورة البلشفية العام 1917 وإطاحة الامبراطورية الروسية مخاوف الطبقة الاميركية الحاكمة من أن العمال الصناعيين في أميركا سيتّحدون بدورهم ويطيحون بالنظام السياسي، الإقتصادي والإجتماعي السائد في الولايات المتحدة..
عليه، جرى في العام 1918 دمج مدرسة أوليفر ضمن “الخطة التعليمية في لورنس” من قبل مجلس الأمن الوطني والمجلس المحلي للمدارس، وذلك من أجل اختبار طرق تدريسية وتعليمية جديدة تساعد المدارس على تحقيق “إحدى مهامها الاساسية، وهي بناء مواطنين صالحين في إطار الديمقراطية الاميركية”. وكان كل من جبرائيل يوسف، وجيمس خليل، وجوليا معلوف من بين أطفال المهاجرين اللبنانيين الذين ارتادوا مدرسة أوليفر خلال هذه الفترة.
عندما خرج عمال المصانع في مدينة لورنس للاحتجاج على استقطاعات الرواتب مرة اخرى في العام 1919، كان المدرّسون في مدرسة أوليفر “يصححون الأفكار والمفاهيم الخاطئة” لدى طلابهم، فيناقشون معهم الأحداث وردود أفعال عائلاتهم. وهكذا استطاعت الحكومة من خلال التعليم في المدارس دق إسفين الخلاف والاختلاف بين أطفال المهاجرين وابائهم، “فلم يُظهر أياً من [الأطفال] تعاطفاً مع المبادئ غير-الاميركية التي كان [يؤمن] بها ابائهم وامهاتهم إلا في حالات قليلة جداً”. وهكذا أقبل الجيل الجديد من المهاجرين اللبنانيين في مدينة لورنس، نتيجة انخراطهم في التعليم وكسر حاجز اللغة، وتشجيعهم على عدم العمل في المصانع، على سلوك طرق مختلفة عن تلك التي سلكها آبائهم وأمهاتهم الذين عملوا في مصانع النسيج.
طور جديد
مع حلول عشرينيات القرن الماضي، أخذت أعداد المهاجرين في مدينة لورنس بالتراجع لسببين رئيسين. يعود الأول إلى القيود الموضوعة على الهجرة من قبل قوانين أميركية سُنّت في تلك الفترة والتي لم تسمح بدخول إلا عدد ضئيل من اللبنانيين إلى البلاد في كل عام. والسبب الثاني هو تدهور صناعة النسيج في مدينة لورنس والتي محت معها رفاهية العيش وجاذبية العمل في المدينة. ومع خمسينيات القرن الماضي، طمست عملية إعادة التطوير المدني ما تبقى من آثار الجالية اللبنانية في مدينة لورنس في ما كانت تعرف بمنطقة بلينز واحيائها.
وحدث خلال العشرينات أيضاً أن شهد جنوب الولايات المتحدة ازدهاراً كبيراً في معامل النسيج، وبات بذلك منافساً قوياً للمعامل الموجودة في شمال شرق البلاد. ونتيجة لهذه المنافسة وضغوطها، لم تستطع المعامل المحافظة على الاتفاقيات والعقود التي كانت قد أبرمتها مع الاتحادات العمالية بعد سنواتٍ من الإضرابات والاحتجاجات. بدأت على أثر ذلك بعض المعامل بإغلاق ابوابها، في حين ظل العديد منها مفتوحاً خلال الأربعينات من القرن الماضي.
على الرغم من استمرار العديد من المهاجرين الاوائل في العمل وبقائهم في المعامل، الا أنهم حثوا اولادهم، على الالتحاق بالمدارس والحصول على وظائف وفرص عمل أفضل. شهدت المعامل طلبا متزايدا للعمال أثناء فترتي الكساد الكبير (1929-1938) والحرب العالمية الثانية (1939-1945). لكن بعد انتهاء الحرب، أغلقت بقية المصانع أبوابها نهائياً. وبدأ خلال هذه الفترة تطوير منطقة پلينز من قبل هيئة إعادة التطوير في مدينة لورنس. فقد أعلنت هذه الهيئة بأن “هذه المنطقة [كما هي عليه] تؤثر سلباً على السلامة والصحة والأخلاق والرفاهية في مدينة لورنس والتطور السريع الذي تشهده [مناطقها]”. ووضعت الهيئة مخططها لهدم المدينة وإعادة بنائها بحسب خطط وتصاميم جديدة. وأعرب السكان عن حزنهم وألمهم نتيجة إجبارهم على الرحيل من الأحياء التي سكنها أهلهم على مدى أجيال.
الخاتمة
لقد اختلفت تجربة المهاجرين اللبنانيين في أميركا اختلافاً كبيراً بحسب مناطق استقرارهم وأماكن سكنهم. وفي مدينة لورنس تحديداً، عمل الآلاف منهم في معامل النسيج في المدينة، فكانوا من ضمن ثلث المهاجرين اللبنانيين الذين عملوا في المصانع الأميركية ما بين 1900 و1940. ونظرا لانخفاض معدلات الدخول والرواتب وارتفاع أسعار الإيجار والسكن، أُجبرت العائلات المهاجرة — رجالاً ونساءً وأطفال — على العمل في هذه المصانع.
اتحد اللبنانيون مع غيرهم من الجاليات المهاجرة في لورنس، واتخذوا موقفا معارضا من أصحاب المعامل الأميركيين خلال إضراب 1912. ودفعتهم هذه التجربة وشقاء العمل في معامل النسيج إلى توجيه أولادهم نحو مستقبل بعيد عن مصانع لورنس. وبالفعل توصَل عدد صغير من الجيل الثاني من المهاجرين في لورنس على مزاولة أعمالا مهنية مثل الطبابة والمحاماة، وفتح عدد آخر منهم متاجر ومحال تجارية. لكن ما بين عشرينات وأربعينات القرن الماضي، اُجبرت نسبة كبيرة منهم على العمل في المصانع لنفس الأسباب التي دفعت آبائهم وأمهاتهم إليها: سهولة الحصول على فرص عمل وتأمين دخل ثابت. ومع حلول خمسينيات القرن الماضي، انتهى عهد عمل المهاجرين اللبنانيين في المعامل الصناعية في مدينة لورنس، ورافق ذلك ظهور معامل النسيج في جنوب الولايات المتحدة وازدهارها، وطمست عملية إعادة التطوير المدني في لورنس ما تبقى من آثار الجالية اللبنانية في المدينة. لكن مع أن العديد منهم تركوا مصاف الطبقة العمالية، إلا أن قصصهم تسلط الضوء على جانب من تاريخ وتجربة الهجرة اللبنانية في الولايات المتحدة تم إهماله لوقت طويل. فهي تروي لنا ابعاداً جديدة عن حياة كادحة عاشها وبناها المهاجرون الاوائل، والتي تفند بواقعها حكاية “بياع الكشة”.
(*) قدم هذا العمل من قبل مركز موييز خيرالله لدراسات الانتشار اللبناني في جامعة ولاية كارولينا الشمالية. ونفذ المشروع الدكتور اكرم خاطر، مارجوري ستيفنس، مارلين دراث، وكولبي لبسكومب، وترجمته إلى العربية لالة السعيدي.
بالامكان معرفة مصادر هذا المشروع بالضغط هنا.