الرئيسية / home slide / “دولة لبنان الكبير” للمؤرخ عبد الرؤوف سنّو: السباحة في بحر متلاطم!

“دولة لبنان الكبير” للمؤرخ عبد الرؤوف سنّو: السباحة في بحر متلاطم!

02-02-2023 | 00:00 المصدر: “النهار”

"دولة لبنان الكبير" للمؤرخ عبد الرؤوف سنّو.

“دولة لبنان الكبير” للمؤرخ عبد الرؤوف سنّو.

الدكتور محمّد شيّا

1
لا أظن أن في وسع عمل تاريخي آخر أن يحتوي الأمرين معاً: متابعة لصيقة، يومية، قريبة، لكل المتغيرات اللبنانية “الساخنة” التي رافقت إعلان ’#دولة لبنان الكبير’ في الأول من أيلول 1920، وأن يبقى صاحبها مع ذلك على مسافة واحدة مما يتطور تباعاً على الأرض منذ لحظة الإعلان الأولى، وإلى خطاب الحياد لسيّد بكركي بعد مئة عام.

كيف يستطيع مؤرخ بيروتي، سنّي، كان معنياً مباشرة بإعلان “لبنان الكبير”، والذي احتسب يومذاك في خانة الموارنة وبخلاف عواطف ورغبات سنّة بيروت، ومسلمي مدن الساحل والأقضية الأربعة، أن يبقى على هدوء الباحث، وبرودة العالم، وهو معني شخصياً بكل موقفٍ عرض له؟

وكيف يستطيع أن يتنقل بين السرديات المتفجرة تلك بأقصى درجات الأمانة والحيدة، وكأنه يؤرخ لبلد على بعد ألف ميل، ولذاكرة عمرها ألف سنة؛ لا لأحداث بلده المتلاحقة، ولصورٍ حيّة، عنيفة، نابضة من عاصمته، كانت سمة السنوات الصاخبة التي تلت الأول من أيلول 1920، وحتى منتصف العقد الذي سيلي – ثم تجددت قبل عقدين ونيّف من الزمن؟

ما يعرضُ له المؤرخ سنّو، إذاً، بالتفصيل ليست سطوراً عثر عليها في موسوعة تآكلت أوراقها على رف مكتبة جامعية، أو لقىً في متحف التاريخ العام، بل يوميات عايشها جيله شخصياً، والجيل الذي سبقه؛ يوميات الإعلانات الصارخة، والمواقف الساخنة، من أقطاب الانتداب وزعماء بلده، ومن زعماء مدينته ومثقفيها على وجه الخصوص.

هي ذي بعض وجوه الإثارة في عمل المؤرخ سنّو الجديد.
2
يقع الكتاب في 480 صفحة، قطع كبير، موزّعة على ثمانية فصول مع ملاحق عدة، ما يجعله بحق مصدراً ثرّاً لمعلومات ومعطيات وشهادات لسنوات 1920-1926، وما تلاها. الغنى المعرفي والتوثيقي هذا ليس جديداً في نتاج المؤرخ سنّو؛ بل لعلها خصيصة اختصّ بها وهي التوسّع في المصادر (بغير لغة ) ما أمكنه، بهدف التأسيس لكل رأي أو موقف أورده في كتابه الكبير – وما أكثرها، بل ما اكثر تناقضاتها في الحقبة العاصفة التي تلت إعلان دولة لبنان الكبير. فقد فجّر إعلان المفوّض السامي الفرنسي للكيان الجديد، من على درج قصر الصنوبر في حرج بيروت، أقصى لاوعي اللبنانيين، التاريخي والجمعي، بين طرفِ مؤيدٍ فرحٍ بل مبتهج بالكيان الجديد (وهم عموم الموارنة والكاثوليك والأقليات المسيحية، من دون الروم الأرثوذكس حيث كان بطريركهم غريغوريوس حداد يبايع فيصل الاول في دمشق قبل ذلك ببضعة أشهر، 8 آذار1919)، وطرفٍ مسلمٍ مقابل (سنّيٌ أولاً وبدرجة ثانية وبالترتيب، شيعي ودرزي) شعرَ بخيبة أملٍ بل بالهزيمة والخسارة، وهو الذي كان أمِل في “مملكة” عربية ستخلف السلطنة العثمانية في المشرق العربي، وأن لبنان سيكون جزءاً منها.

لم يكن المسلمون اللبنانيون على صلةِ، بل إن معظمهم لم يكن على معرفة، بالتداول الدولي الجاري لأشهر في باريس وفي كواليس مؤتمر الصلح والذي أفضى إلى التوافق بين دول الحلفاء (المنتصرين بنتيجة الحرب الأولى) على إعلان لبنان دولة مستقلة تحت إسم “دولة لبنان الكبير”، مستقلة، منفصلة، عن سوريا الطبيعية، وعن الداخل العربي. وليزيد شعورهم بالهزيمة، فوجىء المسلمون اللبنانيون بضم مدن الساحل (طرابلس، بيروت، صيدا، ) وخلفها الأقضية الأربعة ذات الأكثرية المسلمة إلى لبنان الكبير، من دون موافقتهم، ولا حتى استشارتهم. وعليه باتت اندفاعتهم (الغريزية) ضد الكيان الجديد متوقعة، وكتاب المؤرخ سنّو يغطي السنوات الأولى تلك بالتفاصيل والأسماء.

3
لكن المؤرخ سنّو، وكما أي مؤرخ حقيقي، لم يكتفِ بقمة جبل الجليد، كما يقال، وهو الجزء السهل، بل حفر في قعر مواقف المسلمين والمسيحيين، واكتشف أن الذي أعلن من موقف إسلامي معارض بقوة لإعلان لبنان الكبير هو نصف الحقيقة فقط، النصف الشعبوي (حيث تمالىء النخب فيه الجمهور) فيما كانت زعامات مسلمة عدة، سنية وشيعية ودرزية، تبلغ غورو بطريقة أو بأخرى عدم اعتراضها على الكيان الجديد شرط أن تتحقق فيه العدالة بين مختلف الطوائف اللبنانية.

في الفصول الأخيرة من الكتاب يعود المؤرخ ليحاكم المسؤولين عن التردي الذي أصاب بعد حين فكرة “لبنان الكبير”، وكيف اختفى “التألق” الاقتصادي الاجتماعي ليحل محله الاهتراء والانقسام والحروب الأهلية التي غدت طابع لبنان المستقل بعد 1943، وبخاصة في الخمسين أو الستين سنة الأخيرة وإلى يومنا هذا.

في الفصلين الأخيرين يخوض المؤلف غمار البحر المتلاطم الآن بالخيارات المرّة التي يتداولها، وربما فكّر بها، اللبنانيون: من الغلبة العددية، الطائفية، بل المذهبية، من جهة، إلى طرح اللامركزية والفدرالية من جهة مقابلة، مع التعقيدات المتحكمة بكلي الطرحين. وكذلك بفكرة “الحياد النشط” التي اقترحها البطريرك الراعي.

4
عمل المؤرخ بروفسور عبد الرؤوف سنّو الجديد هذا يلي أعمالا موسوعية أخرى له، صدرت تباعاً وبعضها: “حرب لبنان 1975-1990″، “تفكك الدولة وتصدّع المجتمع”، “لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف”، “المدن والأقطاب في لبنان”، وغيرها من الموضوعات “الساخنة” على الدوام، موزّعة لجهة الموضوعات، ولكن يجمع بينها منهجية المؤرخ سنّو العلمية الصارمة، وأسلوبه الرشيق كذلك.

باختصار، هو عملٌ أخر من د. عبد الرؤف سنّو يستحق التوقف عنده ومتابعته.

عميد سابق في الجامعة اللبنانية
استاذ فلسفة الحضارة والمنهجيات والفلسفة الغربية، في الجامعة اللبنانية

*”دولة لبنان الكبير، 1920 -2021، إشكاليات التعايش والحياد والمصير”، بيروت، 2022، دار المشرق.