سمير عطاالله
النهار
07032018
لبنان فرعان وليس مجموعة طوائف.
الأول، رجال لا مكان لهم إلا في الهجرة.
والثاني، مجموعات هاجمة على الاماكن والكراسي والمقاعد”.
المطران كبوجي
“بعد أيام طَلَبتْ اليَّ أمي ان أنزل الى الضيعة لعلني أجد “مكتوباً” من الأخوين في أميركا. وكان قد طال سكوتهما. لكنني وجدت أكثر من “مكتوب”. وجدت مكارياً وصل من بيروت يقول أمام مخزن خالي إنه التقى اخي اديب هناك وسوف يَبلغ الضيعة بعد دقائق.
يختصر نعيمة ملحمة الاغتراب التي مرت بها بيوت لبنانية كثيرة: الابناء والآباء الذي يهاجرون. الأم التي لا تعود تعرف ابنها إلاّ من شامة خلف العنق. والبغلة التي كانت وسيلة السفر الى بيروت حيث الميناء وبوابة الغربة الكبرى. بعد قليل سوف يركب تلك البغلة ميخائيل نفسه، ليبدأ رحلة في العلم والعمل والعطاء، تبدأ في الناصرة، ثم أوكرانيا، ثم ولاية واشنطن، ثم نيويورك، ثم باريس، ومن ثم عودة الى “الشخروب” وسفح صنين العام 1932، حيث عاش حتى ناهز المائة.
لا أستطيع أن أحدد لماذا أتوقف عند ذكرى مرور ثلاثين عاماً على غياب نعيمة. ففي السن التي ينبهر المرء بكتّابه، سحرني جبران، وساءني نقد نعيمة له: مطرقة قاسية على اسطورة جميلة. ورنَّ جبران في ذائقتي عليلاً حانياً متألماً وميلانكولياً. بينما كان اسلوب نعيمة صلداً قاسياً وحاداً. وبينما أطل فتى بشري للمرة الأولى بـ”الاجنحة المتكسرة” واحزانها وحربها على الاقطاع، بعد فتى الشخروب من الرومانسيات، يواجه الحب بالصد والواقع بصخور الشخروب الرمادية، ولا يعترف بلذة الخيال هرباً من فظاظات الحياة، أولاً في الوطن، ثم في الدورة حول العالم.
سوف نكتشف في ما بعد ان نعيمة تميّز عن رفاق “الرابطة القلمية” في نيويورك باشياء كثيرة: كان الاكثر ثقافة واطلاعاً على آداب العالم، بما فيه الروسي، كما كان أكثر صلة بالأدب الاميركي، ولذلك انصرف الى النقد، فيما اكتفى الباقون بالتأليف السائر، بمن فيهم جبران، وابداعه المجرد. وفيما انتقل جبران من التمرد الى ذروة الرضا في “النبي”، بقي نعيمة ناقماً، متحسباً، حذراً، ومزعزع الايمان بكل الاشياء. فالعالم الذي تعرف اليه مبكراً في روايات تولستوي ودوستويفسكي، وخصوصاً في اعمال تورغنيف، هو عالم مليء بالشر والفقر والخيبة والاطفال المعذبين. وهو نفسه من أي قفرٍ ومِحلٍ أتى، فطالما تساءل ما الذي أخذ أهله الى سفح صنين حيث حتى المياه قلّما تخصب هذا الجرد. وإذ يسافر الى أميركا، لا يجد عملاً إلا في دكان، مثله مثل أمين الريحاني، وأما جبران رفيقه، فلولا ماري هاسكل ورعايتها لمات تحت عبء الفقر والشدة مثل أمه وأخوته في أزقة الايرلنديين الفقيرة في بوسطن.
كم يختلف الصدى عن الصوت. ففيما كانت سمعة الرابطة القلمية في لبنان والعالم العربي تملأ المعاهد والمحافل، كانوا هم بالكاد يملأون الجيوب والأمعاء الخاوية. ووجد نعيمة نفسه ينادي بالاشتراكية في قلب نيويورك متأثراً بالفكر الذي حمله من الروسيا، فيما نادى بها رفاقه متأثرين بالفكر اليساري المنتشر في اميركا نفسها (2). وكانت بعض المجلات الصادرة هناك، مثل “الجامعة” لفرح انطون، تنشر مقالات مثل كتابات جون شتاينبك في الدفاع عن الكادحين. ولم تكن هذه المواقف والاتجاهات تروق المغتربين المحافظين، وخصوصاً الإكليروس، إلا الليبرالي منه. فقد بلغ اعجاب المطران انطونيوس بشير بجبران انه تولّى ترجمة “النبي” في حياته، في حين رفض جبران ان يستقبل الكاهن الذي جاءه لصلاة النزع الأخير، كما يروي نعيمة في كتابه المثير للجدل عن حياة جبران.
اخترق جبران وحده الفضاء العالمي من دون سائر رفاق الرابطة. خرج من قراءة نيتشه و “هكذا تكلم زرادشت” بالعثور على “نبيِّه” الذي يخرج من مدينة أورفليس (نيويورك) عائداً الى الجزيرة، أي لبنان. وليست “الميترا” سوى ماري هاسكل، تلك المدرِّسة الايرلندية التي دفعها القدر الى جبران، تحبه وترعاه وتعلمه الانكليزية. وباشرافها سوف يعيد كتابة “النبي” ثماني مرات قبل ان يسلمه الى ناشر ناشىء ومجازف يدعى الفرد كنوبف. وسوف يثري “النبي” المؤلف والناشر معاً، وحتى هذه اللحظة. لم ينل “مرداد” نعيمة شيئاً من “نبي” جبران. ولا نال شعره شيئاً مما نالته “المواكب”. ولا عبر امتحان الرسم الذي حاوله، كي يصبح مثلث العطاءات مثل صديقه وغريمه. بل ان ايليا أبي ماضي، الذي قلّما اعترف به نعيمه، تجاوزه شاعراً صوفياً يطرح تساؤلاته وتأملاته أمام “طلاسم” الحياة.
ماذا لو بقي نعيمة في نيويورك ولم يقتله الحنين الى الشخروب والعزلة، يائساً من جميع احلام اليقظة في بلاد الفرس؟ لا ندري. القدر لا يخضع لقانون التساؤلات ولا تتقبل لغته علامات الاستفهام. احمل على كتفيك صندوقة علامات التعجب وامض. لكن الى أين؟ الى حيفا، فالناصرة، فإلى فولتافا، فإلى سياتل، فإلى القتال جندياً في فرنسا، فإلى “الشخروب”، تحريف لكلمة عربية تعني القفار.
اختار نعيمة حياة القفر والعزلة، متفادياً مثل جبران والريحاني، الزواج على رغم قصص حب عابرة، مثلهما أيضاً. لكن القصص الجارفة مثل المشاعر الجارفة، كانت قصص جبران، من بوسطن الى نيويورك الى باريس الى بيروت. السحر في كل مكان. هامت به مي زيادة حتى من غير ان تراه، من أجل ان يقال مي احبت جبران. وطارت شهرته مبكرة في المغترب وفي ديار العرب. وسرعان ما تجاوز دائرة الرابطة وإطارها المهجري لكي يدخل الاندية والدوائر الاميركية بهويات كثيرة، الشعر والرسم والنضال السياسي من اجل حرية بلده المسور باسلاك الفقر وجمال باشا وأعاصير الجراد.
اثار سحر جبران غيرة الكبار مثل نعيمة، واعجاب وولاء الرفاق البسطاء. كانت موهبته خارقة، وكان ذلك نارياً. في رثائه لجورج نقاش كتب سعيد فريحة ان شارل ديغول استبقاه للتحدث معه كعبقري – لا كسياسي. فهو جورج نقاش بموهبة، وليس بمرسوم. وعاد وقال معاتباً توفيق يوسف عواد على ترك الأدب الى السفارة في روما “انه سفير بمرسوم، شأنه في ذلك شأن الوف السفراء الذين تصنعهم المراسيم. أما هو وامثاله من أهل المواهب، فتصنعهم مراسيم السماء”.
مرسوم جبران السماوي كان الرقم واحد، وطناً ومهجراً. ولو كان حياً لهرع الى القنصلية في نيويورك يملأ استمارة استعادة الجنسية وطلب الاقتراع، مغتنماً فرصة القانون الجديد ونعمة النسبية وموسم الغلال الكبير.
مثل جانوس، وجه واحد من الجانبين، وجه جبران. أرزة أخرى على علم آخر. تخصب البذور في الأرض الأم وتنثر في كل أرض. نتمنى على وزارة الخارجية والمغتربين ان تدعو الى أي مؤتمر مقبل اشخاصاً أمثال رالف نادر، وكارلوس سليم، وجوزف مايلا، وكارلوس غصن، وسلمى حايك، علّهم يغتنمون فرصة الاقتراع.
(1) بتصرف عن “سبعون” الجزء الثاني، دار نوفل.
(2) اسرار تأسيس الرابطة القلمية، فواز احمد طوقان، دار الطليعة.