وكان الشرح دقيقاً حقاً. لكن أبو ميزر، الذي كان أيضاً على شيء من السخرية والظرف، لم يعش ليرى أن ياسر عرفات ظل رئيساً لمنظمة التحرير حتى آخر يوم في حياته، وأن الفريق حافظ الأسد ظل رئيساً لسوريا حتى وفاته. ولا هو شهد المرحلة التي خرج فيها زين العابدين بن علي من البلاد، وحسني مبارك من الرئاسة، ومعمر القذافي من “الكتاب الأخضر”، بالقوة والعنف بعدما كان ثلاثتهم رؤساء مدى الحياة، ولا شهد صدام حسين على منصة الاعدام، وعلي عبدالله صالح محترقاً في انفجار امام محراب المسجد.
عندما قامت الدعوات في ذروة “14 آذار” الجماهيرية لاقتحام القصر الجمهوري على الرئيس اميل لحود، كان المعترض الأول البطريرك صفير: لا نريد سابقة من هذا النوع ضد مؤسسة الرئاسة. فالرئيس متغير، أما المؤسسة فهي كيان وطني لا يجوز المساس به.
لماذا تقدم الغرب وتخلف الشرق؟ تساءل أمير الحبشة، راسلاس، العام 1759، “لماذا يأتي الاوروبيون إلى شواطئنا، ولا نستطيع نحن الافارقة والآسيويين، أن نفعل الشيء نفسه؟”. أجابه فيلسوف القصر: المعرفة والمؤسسات.
في كتابه “ثروة الأمم وفقرها” يقول ديفيد لاندس، إن المؤسسات هي نتاج المعرفة، الثقافة، والعلوم. يقدم برهاناً على ذلك التجارب التي حدثت في القرن الماضي: الألمان في الشرق وفي الغرب، الكوريون في الشمال وفي الجنوب، والصين بين الشعبية والوطنية، قبل التغيير الهائل في بكين.
انقلب العالم العربي، ليس على الاقطاع و “الانظمة العميلة” ولكن على المؤسسة الوطنية، بمعنى المؤسسات الحاضنة. شق الانقلاب الأهالي الى أحزاب. وحرَّف معنى التمثيل البرلماني، وسخَّر الاستفتاءات، ووصل الأمر أن يفوز صدام حسين بنسبة مائة في المئة، متجاوزاً حتى سحر الأرقام السابقة 99٫999%.
ليست الوراثات ما أعطبت لبنان الجمهوري، بل منع قيام المؤسسات، أو منعها من العمل. سابقة تجر الى اخرى. مخالفة الدستور – والعرف – بتعليق الرئاسة، ومخالفة الوطن بتعطيل الحكومات، وتسيّب الادارة، ومخالفة النظام البرلماني بتعليق الانتخابات.
ومنذ عقدين على الأقل، وسلطات الحكم الثلاث تتنازع في ما بينها، تاركة الطبقات الأدنى من الإدارة تتنازع هي أيضاً. تسقط الحكومات أو تٌشل، وتعطّل السياسات الوطنية الكبرى، فماذا يبقى؟ وكيف يمكن القطاع الخاص أن يستمر ويزدهر، إذا كان القطاع العام مكبلاً بالتفريغ والمكايدات، في مناخ يغيب عنه الانفراج الوطني غياباً شبه كامل؟
كنا نختلف عن العالم العربي في الشكل، باحترام الاعراف الدستورية على الأقل. أي ليس النصوص، ولا المفاهيم، ولكن مظهر من مظاهر التوافقات، فإذا بنا نفضل شبح الفراغ، أمس في الرئاسة وفي الحكومة، والآن في البرلمان. جورج نقاش كان يقول إنه لا يمكن دولة أن تقوم على تسويتين.
ولا على تسويات متوالدة. وإذا كان لا بد من تسوية، وجِبَ أن تكون واحدة قائمة على عناصر الديمومة، لا على متقلبات الامزجة والمصالح. في بلاد الناس، القانون حل، لا ازمة. والدستور مرجع، لا نزاع. والقانون ليس مجموعة اقتراحات استرضائية يتقدم بها الأفرقاء كمن يتقدم الى مناقصة أو مزايدة. فهدفه تنظيم حياة الناس وصون حقوقهم، وليس تنظيم مكاسب السياسيين أو استمراريتهم.
جميع المشاريع التي اقترحت تتناول العدد، لا المبدأ. جميعها موضوع على قياس الاحزاب وفروضها ومواصفاتها. مثل هذه المواصفات، تمنع، أو تحظر، وصول المستقلين. وتلغي فرص غير الطائفيين. ولا تحسب اطلاقاً حساب من يمكن أن يمثل لبنان بكل طوائفه، وكأن لا وجود لهذه الفئة، التي كانت في الماضي، هي صورة لبنان. وإلى حد بعيد كانت هي الأمل في خلاصه من المستنقع الطائفي.
ولا اسم آخر له! طبعاً، من الافضل تلطيفه، ولو بالتزوير. لكن ألسنة الجحيم تمتد في كل مكان، من سوريا إلى مصر مروراً بالعراق. والقحة الطائفية لا تستحي، لأنها جميعاً تدعي امتلاك الحقيقة. ولا بأس ان نبقي حيزاً صغيراً لطائفة اللاطائفيين، الذين اعتقدنا مرة أن لبنان أقيم من اجلهم: بلد قابل للتعافي في شرق ولد مريضاً، يدعي السماح والسماء، ويتقاتل بجميع سلاح الأرض وأفكّّها.
عندما بلغ الشاعر محمود درويش الستين من العمر، قال: سوف نمضي عقداً كاملاً في هذه اللعنة! كلما خطر لأحد أن يشتمنا قال: يا ابن الستين. أو يا أخو الستين. ستة عقود ننتخب ونعمل بموجب قانون الستين، ثم نكتشف أنه لقيط، يرفض الجميع ابوَّته ونسبه.
الشطط الجوهري هو أننا سلمنا الدولة الى من غلب. وكل فراغ يسلم نفسه الى الأقوى. لذلك، نفيق بين فترة وأخرى على صراع عسكري في المخيمات يديره ضباط يحملون رتباً عالية حصلوا عليها أيضاً داخل المخيمات. ولذلك، يلحق بلال بدر بأبو محجن تحت قبع الاخفى. ويتحول كل شيء الى أحجية بلا حلول.
لا تستطيع الدولة أن تنكر مسؤوليتها عن وجود مئات آلاف النازحين، الذين هم ايضاً بشر وعمال وعائلات. أين كانت عندما شهدت نزوحهم؟ وماذا فعلت؟ وهل غاب عنها لحظة ان الفقير النازح سوف يضارب يوماً على الفقير المواطن؟ لقد كنا مختلفين ومتنازعين في تنظيم النزوح الفلسطيني، وكنا أكثر انشقاقاً في ادارة النزوح السوري. تعاملنا مع القضيتين وكأن لا مسؤولية علينا، فيما هما مسألتان في صميم المصير. مأساة تولِّد مشكلة.
حدث ذلك لأن المجتمع الحقيقي معزول عن سلوك المجتمع السياسي، ومخذول امامه، ويتصرف دوماً على أنه مجرد تبع في حال استنفار: مرة يدعى الى قتال، ومرة الى اقتراع، لكنه يُمنع من الدخول عند ابداء الفكر أو الرأي.
كل هذا النقاش، أو الجدل، او الخناقة، حول الانتخابات، يتم بمعزل عن الناخبين. وقد اعتاد الناس مكانهم وأدمنوه وأدمنهم. أي مجتمع معافى لا يمكن أن يترك لسواه التفكير عنه، في حاضره ومستقبله. لا يستطيع مجتمع الادعاء أنه قادر على صنع مستقبله. لكننا نستطيع، على الأقل، أن ندرسه معاً، ونتحاور حوله، وندرك بساطة التاريخ والحياة، وهي أن النوافذ تتحاور، أما الجدران فهي جدران. الماضي صعب والمستقبل زئبقي، ولكن يجب أن نبحث في حاضرنا، عما يساعدنا على عدم الوصول الى الجدران والاصطدام بها، من عهد الى عهد، ومن سنة الى سنة.
لا يليق بأحد منا، أننا لا نزال نبحث في بداهة البديهيات. قانون ومحافظات وأقضية، ولم يلتئم هذا “الكونسلتو” إلا بعدما فقد المريض وعيه، فتزاحمت المقترحات، وتدافعت اللجان، وطابت الزيارات المفقودة من أجل البحث عن قانون في مدينة سميت، حقاً أو مبالغة، أم القوانين، يوم اختارت روما أن تكون مدرسة الحقوق في بيروت!
دستور يقول بالغاء الطائفية، وقانون يقول إن كل طائفة تنتخب نائبها. قانون يزيل الطائفة عن الهوية، وقانون يجعل الهوية الحق الواحد في الاقتراع. أضف، إذا سمحت، باباً جديداً: طائفة رئيس مجلس الشيوخ.
نعرف أن الخروج من واقعنا صعب. والأكثر صعوبة هو الخروج عليه. نحن مجموعة طوائف وقبائل. كنا نغطي هذا الواقع بورقة تين من هنا، وورقة عريش من هناك. كل ما نريد هو ألا يتحول الحوار حول أي قضية، وكل قضية، إلى خوف وزعزعة وازمات وتهديدات. لدينا ما يكفي ويفيض من الجدران المرئية وغير المرئية. والغاية الطبيعية من البرلمان، هو أن يظل منبر الحوار كبديل من كل بديل آخر. لأن البدائل الأخرى جدران. والجدران الفاصلة خراب غير فاصل.