الرئيسية / أضواء على / حكاية بيت جبران خليل جبران

حكاية بيت جبران خليل جبران

هنري زغيب
من أرشيف النهار
14062018

نستعيد في #نهار_من_الأرشيف تقريراً كتبه هنري زغيب في “النهار” بتاريخ 6 تموز 1999، حمل عنوان: “حكاية بيت جبران خليل جبران مع إعادة تأهيله هُدم بيت ولادته عام 1954 “بداعي توسيع الطريق” والحاليُّ المرمّم حيث عاش ردحاً من طفولته”.

عام 1923 صدر “نبي” جبران في نيويورك، وأحدث ضجة لم تخبُ حتى اليوم، وفيما قامت في مصر حديثاً ظاهرة ساذجة بمنع الكتاب (في طبعته الانكليزية الاصلية تحديداً)، صدرت في نيويورك في الفترة عينها (لدى الناشر نفسه كنوف) الطبعة 113، بما رفع الكتاب الى نحو عشرة ملايين نسخة، ولعله اعلى رقم في العالم لكتاب غير ديني. في هذه المناسبة، بعد 76 عاماً على صدور الكتاب، نفتح هذه الاضاءة على آخر ما قامت به لجنة جبران الوطنية في بشري، اذ اعادت تأهيل البيت الذي شهد سنين عدة من طفولة جبران. ولهذا البيت مكانة خاصة في حياة جبران، عرفناها منه، ومما جاء غير مرة في دفاتر ماري هاسكل، ومن زيارة باربرة يونغ له عام 1945. وكل ذلك، وفق الشريط الآتي: بوسطن – 7 كانون الاول 1910: ماري هاسكل تكتب في دفتر يومياتها: “حدثني جبران اليوم عن عائلته، عن جده لأبيه وكان رجل رخاء، ثرياً، اريستوقراطياً، ورياضياً بارزاً، وعن ابيه انه كان رجلاً غير عادي، جذاباً مرهف الذوق، مهنته جباية الضرائب للدولة. وكان له عدوّ وشى به متهماً اياه باختلاس المال من الجباية، فألقي القبض عليه ذات يوم احتشد فيه الناس حول تحويطة البيت الكبير القديم. واجهت والدته كاملة ذاك الواقع بشجاعة، وبنتيجة المحاكمة، اثبتت المحكمة التهمة على خليل جبران فصادرت املاكه: البيوت، البساتين، الحقول، بيت العائلة الكبير القديم، التماثيل، الكتب، التحف القديمة، الاثاث، الامتعة، فاصبحت العائلة ولو في بيتها، ضيفة على الحكومة”. بوسطن – الاربعاء 25 آب 1915: ماري هاسكل تكتب في يومياتها: “حدثني جبران اليوم عن طفولته. وقال لي ان اقاربه، بعد وفاة والده، صفّوا ممتلكاته جميعاً، الا البيت الحالي الذي لا يزال قائماً انما يرزح تحت ثقل الرهونات والضرائب والفوائد، وعبثاً حاول اشخاص عدة استعادته لجبران. ولم يعش جبران كثيراً في هذا البيت، لأنه كان يعتمد كثيراً على والده، ووالده لم يكن راضياً عن عمله في الرسم والتصوير”. نيويورك – 31 آب 1918: ماري هاسكل في يوميتها تنقل عن جبران قوله لها انه يوم كان في باريس “زارني من كان القائد الفرنسي الأعلى للبعثة الفرنسية العسكرية في لبنان وسوريا عام 1886، وهو كان صديقاً كبيراً لوالدي خليل جبران، ونزل مراراً ضيفاً علينا في بيتنا. وقال لي القائد ان والدتي كاملة هي اعجب شخصية عرفها في حياته” واضاف جبران “ان في بشري كثيرين يحلفون بقبر أمه كاملة جبران”. يونغ تزور بيت جبران الاحد 8 تشرين الاول 1939: باربرة يونغ (الشاعرة الاميركية، والمرأة الأخرى المهمة في حياة جبران بعد ماري هاسكل) قصدت لبنان، فزارت بشري (تمهيداً لوضع كتابٍ عن جبران، صدر لاحقاً في نيويورك عام 1945 تحت عنوان “هذا الرجل من لبنان”). وكان لها استقبال ضخم، لمعرفة اهل بشري ان هذه “صديقة جبران الاميركية تزورنا”. وهنا ندع الوصل لجريدة “السياسة” التي كان يصدرها في بيروت نايف وردان سكر (من بشري) ففي الصفحة الاولى من العدد 37 (السنة الاولى – بيروت، الجمعة 20 تشرين الاول 1939)، ظهر على ثمانية اعمدة العنوان الكبير الآتي: “بربارة يونغ في بشري موطن جبران: الكاتبة الاميركية تذرف الدموع امام البيت الذي ولد فيه صاحب “النبي”، وتمكث عشر دقائق ساجدة امام ضريحه مناجية روحه”. وفي متن النص جاء: “نهار الاحد في الثامن من تشرين الاول، توجهت باربرة يونغ الى بشري، فوصلتها عند الحادية عشرة صباحاً، يرافقها الامير موريس شهاب مدير المتحف الوطني، والاستاذ فؤاد افرام البستاني مدير الدروس العربية في كلية القديس يوسف، وديفيد ازرق استاذ العلوم في الجامعة الاميركية، وقد استقبلها رهطٌ كبير من وجهاء البلدة، واعضاء لجنة جبران، ورحبوا بها غاية الترحيب واحاطوها بعناية فائقة. وقبل ان تأخذ الكاتبة لنفسها شيئاً من الراحة، طلبت ان تحجّ الى البيت الذي أبصر جبران النور فيه، فكان لها ما رادت، وما هي الا دقائق حتى كانت واقفة امام ذلك البيت البالغ خمسة امتار عرضاً وعشرةً طولاً، والحزن يحتل كل قسمة من قسمات وجهها، والدموع تنهمر من عينيها. حكاية البيت اليوم، لم يعد البيت “متهدماً” كما كان عام 1939، فبعد ستين عاماً على زيارة باربرة يونغ، بات بفضل “لجنة جبران الوطنية” لائقاً بجبران، وجاهزاً لاستقبال الزوار. وليكن واضحاً، مرة اخرى، ان هذا البيت ليس الذي ولد فيه جبران، بل الذي عاش فيه ردحاً من طفولته. انه بيت عيد جبران، اخو خليل والد جبران، فعائلة خليل عرفت التشرد من بيتها الاصلي، وكان بيتاً كبيراً فخماً، على دعة وبساطة. وحين سجن خليل جبران، واحكمت الدولة العثمانية الطوق على الممتلكات، وجاء جيش المتصرف (واصا باشا – 1883/1892) فصادر البيت الكبير، تشردت العائلة، فعاشت الأم (كاملة وولدها بطرس وسلطانة) في بيت عيد شقيق خليل، وكان نصيب جبران الصغير ان يعيش حيناً عند عمته ليلى جبران البيطار في مكان غير بعيد، واحياناً ينام في بيت عمه عيد (البيت موضوع مقالنا هذا)، وعينه على بيت والده الملاصق الذي يسكنه جيش المتصرف. وكان هذا بيت عز وجاه وزعامة، ورثه خليل جبران عن ابيه جبران، مما خلق غصة في العائلة فبادرت كاملة الى انفاق مالها لانقاذ زوجها من براثن السجن العثماني. اما التهمة فكانت، في الظاهر، اختلاس الجابي خليل جبران اموال الضريبة على رؤوس الماشية وعدم تسديدها كاملةً الى الدولة العثماينة. لكن الأمر كان غير ذلك. فليس خليل جبران مختلساً، ولا كان هذا من مناقبيته الجبلية الانوف. والحقيقة ان الوضع كان حالةً لبنانية عامة، بموجب رفض الاهالي دفع الضرائب للعثمانيين، لأن هؤلاء خالفوا دستور 1860 القاضي بتخفيف الضرائب ورفع هذه عن رؤوس الماشية. وكان خليل جبران ذا شخصية قوية وحازمة، ومتواطئاً مع الذين يرفضون، فتلكّأ في الدفع، ولم يكن يختلس، غير ان بعض النمامين وشوا به لدى جيش المتصرف، فاوقفه وطرحه في السجن بكل قسوة. القدر العائلي حين اجتمعت العائلة (كاملة واولادها بطرس وجبران وسلطانة ومريانا) وسافرت الى بوسطن (حزيران 1895)، بقي خليل لوحده في بشري رافضاً ترك لبنان، ولازم بيت اخيه عيد بعدما بقي بيته مصادراً ومسكوناً من جيش المتصرف. وحين عاد الفتى جبران (15 عاماً) الى بيروت مع مطلع خريف 1898، زار اباه في بشري، فوجده يائساً يشيخ قبل أوانه، وقد اشتد مزاجه عصبية وتسلطه عنفاً. فلم يسكن معه في بيت عمه عيد، بل عند عمته ليلى جبران البيطار. العائلة في اميركا لم تكن سعيدة الحظ: سلطانة توفيت في 4 نيسان 1902، وهرع جبران من بيروت الى بوسطن في اول باخرة عند تلقيه النبأ الفاجع، ثم توفي بطرس في 13 اذار 1903 وتوفيت كاملة في 28 حزيران 1903. وكان خليل في بشري، أمام بيت اخيه عيد ذات يوم من تموز 1903، حين وصلته من ولده جبران رسالة تنعى اليه زوجته كاملة، فاصابته صدمة هائلة أثّرت على عينيه، وشعر بعقدة الذنب في تسبُّبه بتشريد عائلته الى اميركا وانطفائها فرداً بعد فرد. فطلب الى صديقه سليم حنا الضاهر أن يكتب الى جبران رسالة جوابية، جاء فيها: “كان ابوك على أهبة ان يسافر اليكم، حين جاءته رسالتك القائلة انكم ستعودون الى لبنان قريباً، لأنكم كرهتم الارض التي وجدتم فيها كل مصائب الدنيا. والحاصل اليوم ان أباك وعمك عيد في حالة يرثى لها. ارسل لوالدك زوج عوينات لعمر 58 سنة، لأنه لم يعد يرى”. فاجاب جبران برسالة جاء فيها: “لا اطلب من والدي الا البركة. هو يعلم ان وجودي في اميركا ليس عن رضى مني، لأني اشتهي كل ساعة أن اكون مع أبي راعياً اتنقل مع قطيع من الغنم من مكان الى آخر انفخ شبابتي في ظلال الاشجار”. وفي اواسط حزيران 1909، تلقى جبران رسالة تبلغه نعي ابيه الذي “مات اعمى مستوحشاً ترهقه الديون”. فكتب الى ماري هاسكل في 23 حزيران: “فقدت والدي. توفي في بيتنا القديم حيث أبصر النور قبل خمس وستين سنة”. وهذا يعني ان خليل، قبل وفاته، كان استعاد بيته، ولو اضطره ذلك ان يرهق نفسه بالديون. فانفته البشراوية وعزة نفسه اللبنانية وكبرياؤه الجبلية لم تسمح له ان يظل عبئاً على شقيقه عيد في بيته. بعد وفاة الوالد خليل جبران، وصل من البرازيل نخلة جبران ليهتم بأمر الميراث، فاضطر الى بيع البيت، وكتب الى ابن عمه جبران (وكان يومها يدرس في باريس) يعلمه انه “اضطر لبيع القليل الباقي من املاك والده خليل ليفي قسطاً يسيراً من الديون التي تراكمت على خليل”. فاجابه جبران: “… ووزع ما فيه من اثاث على محتاجيه، من اهالي بشري، وليذكروا بالخير اسم امي”. وكان البيت من نصيب آل الضاهر الذين اشتروه. البيت بعد جبران ذاك البيت الفخم الذي ولد فيه جبران عام 1883، وتوفي فيه عام 1909 والده خليل جبران الذي ورثه عن والده، لم يعش بعده الا 45 سنة، لأن بلدية بشري قررت هدمه “بداعي توسيع الطريق”، وهدمته مع كل ما حوله عام 1954. اما البيت الحالي (موضوع هذا المقال، بيت عيد جبران)، الذي كان جبران يتردد اليه خلال وجوده في معهد الحكمة، فاستملكته “لجنة جبران الوطنية” في مطلع الاربعينات ورممته. وعام 1971 فتحته للزوار بعدما زوّدته الصوت والضوء، لكن الحرب جاءت لتقضي على كل ما انجزته اللجنة في بيت بشري. حديثاً، عملت “لجنة جبران الوطنية” الجديدة على ترميم البيت، فجاءت باختصاصيين ضربوه بالرمل، ودهنوا ابوابه وجدرانه بالزيت، وكحّلوه واعادوا اليه الانارة والموسيقى، واعادوا اليه الأثاث مشبهاً بما يمكن ان يكون عليه على ايام جبران. اما التاريخي فعلاً الباقي من ايام جبران، ففي الجوزة الكبيرة امام البيت، في حديقة صغيرة جميلة يتوسطها تمثال جبران بازميل حليم الحاج. ماذا في البيت؟ الى يمين المدخل، تخت عالٍ كبير وعريض، قربه خزانة للثياب، الى جانبه صدر من القش كانت العائلة تأكل عليه، ثم فاصل حجري واطئ عليه كانون نار، وقدر من الفخار، ثم صندوق كبير، ومقاعده واطئة، لينتهي الحائط بطاقة كبيرة فيها قنديل، وتتوسط البيت/ الغرفة ثلاثة قناطر عالية من نصف العلو الى السقف. انه البيت الذي يزوره المئات اليوم، والذي كان خلال الصيف الماضي محطة رئيسية في “أيام جبران” نظمتها “لجنة جبران الوطنية” الجديدة بالتعاون مع بلدية بشري الجديدة، وتضمر أن تعيدها باحتفالات ثقافية شعرية موسيقية هذا الصيف ايضاً. وهكذا، في اليوبيل الماسي (75 عاماً) لصدور “النبي”، عاد صاحب “النبي” الى البيت الذي عاش فيه، وعاد الكتاب الى اورفليس الجديدة: بشري التي لم تفارق خيال جبران طوال اقامته في تلك الصومعة النيويورك النائية، حتى انه، وهو يرسم في صومعته صديقه ميخائيل نعيمة (24 تشرين الثاني 1923)، قال له: “امنيتي يا ميشا أن ازور وادي الأرز قبل أن أموت”. وعاد، انما… من دون النور في عينيه ليرى ما يشتهي ان يرى. وها هو اليوم يرقد في وادي الارز، معززاً في المتحف، مكرّماً في البيت، ومحتفى به لا من أهل البيت فحسب، بل من كل لبنان.

اضف رد