اخبار عاجلة
الرئيسية / مقالات / حكايات كوندوروشكين

حكايات كوندوروشكين


سمير عطاالله
النهار
12042017

ما أن يصل الروسي إلى مكان جديد عليه، حتى يضع أمامه دفتره ويمسك بقلمه ويكتب، إما قصيدة وإما قصة. جاء ستيبان كوندوروشكين إلى هنا العام 1898 ومعه قلم ودفتر ومراسلاته مع ماكسيم غوركي. عمل طوال خمس سنوات مفتشاً تربوياً في جمعية المدارس الارثوذكسية، التي كان يموّلها القيصر، وتنقَّل ما بين لبنان وسوريا وفلسطين، وترك مجموعة قصصية(1) تشكل لوحة إنسانية مريرة للقضية اللبنانية الخالدة، الطائفية.

هو، كانت مهمته في حد ذاتها، جزءاً من التنافس الطائفي: ليس تعزيز المدارس الارثوذكسية ضد المدارس الاسلامية، بل ضد مدارس الروم الكاثوليك! فالمدرسة كانت مجموعة هويات، المذهب واللغة ومعها الانتماء. والمسألة لا تحتمل اي تغافل أو تساهل. القضية عظيمة.

إذا اردت دليلاً سريعاً على ذلك، إليك الخادمة الروسية أكولينا، العاملة في دير الراهبات في طرابلس. المشقة الكبرى، ليست عملها المتعب، بل ارغام العاملات الأخريات على التحدث بلغة المسيح، بدل هذه اللغة الهراطقية اللعينة. وما هي يا أكولينا لغة المسيح؟ الروسية، عليكم اللعنة.

تبدو “حكايات كوندوروشكين” كأنها مجموعة قصص قصيرة كتبت على طريقة انطون تشيكوف. لكنها في العمق رواية طويلة من فصول وأمكنة عدة. أو مسارح، إذا شئت. إلا أن الرابط الفقري لا يتغيّر: الاضطهاد النفسي، أو الحسي، بين طوائف وأديان تتصارع على الأرض الضيقة، أو الارزاق القليلة، أو الاساطير الكثيرة، التي تقسم الناس في حي واحد، أو حارة واحدة، وأحياناً، بيت واحد، إلى مجموعة قبائل متضاغنة في عمق. ما سماه سبينوزا “الهيامات الحزينة”. ماذا يعمّق هذه العبثيات؟ الجهل. مفتش التربية الروسي يعيش في بيئة بدائية، ويسمع دوماً نباح الكلاب الجائعة.

كتب الروسي درامياته هذه قبل مائة عام، على انها مشاهد تصويرية لا أكثر. حتى الاسماء لم يبذل أي جهد لتمويهها. وجميعها من النوع الذي كان سائداً آنذاك: شاهين وفدوى وحنينة. بلدات بلا طرقات أو عربات. بغال وحمير. وأما المدارس نفسها، ففي مبان صغيرة أو بيوت من الطين. ولا حاجة الى الاشارة، أنها مقسمة بما يرضي الخواطر ويرد الاخطار: البنات في مكان، الصبيان في آخر.

يا للهوس الروائي عند الروس. إحدى أجمل القصص، أو المشاهد في المجموعة عن “يوم البريد في راشيا”. اليوم الذي تصل فيه الرسائل من المغترب الى الذين لم يهاجروا بعد. الجميع استيقظوا مبكرين في انتظار “البوسطة”. حتى الكهنة أنهوا القداديس باكراً. وابناء البلدة الذين يعملون عادة خارجها، فضلوا البقاء هنا. منهم من ينتظر الرسائل، ومنهم من ينتظر الجرائد، ومنهم من ليس له أقارب ولا جرائد، لكنه ينتظر الاخبار. يوم الجمعة “تبدو راشيا مثل قرية نمل أثارها طفل بعصا”.

تصل الحقيبة الجلدية على ظهر بغل. ويقف الساعي على الشرفة منادياً اسماء الذين وصلتهم رسائل أو صحف. وكان سمعان أول من تسلم بريده، صحيفة “المحبة”، فما أن القى على عناوينها نظرة سريعة حتى انهالت عليه الاسئلة: كيف الاحوال في أوروبا؟ ماذا عن الخلاف بين روسيا واليابان حول منشوريا؟

يطرح الاسكافي ملحم على سمعان اسئلة اضافية وهو يشد الخيط الغليظ في النعل، معلقاً بدوره على ان بريطانيا ستدعم اليابان بسبب معاهدة الصداقة بينهما.

لكن ثمة ما يشغل بال ملحم أكثر من ذلك: رحلة الرئيس الفرنسي الى روسيا. ماذا تراهم يعدّون؟ في هذه الاثناء يمر المعلم البروتستانتي، فيهتف له ملحم: هل سمعت الاخبار؟ سوف تلقن روسيا الانكليز درساً لا يُنسى! لكن المعلم البروتستانتي كان حاسماً: انكلترا ستربح عليهم جميعاً. ومن بعيد هتفت امرأة بصوت عال: بالطبع النصر للروسيا.

كبرت دائرة المجتمعين حول دكان الاسكافي. وتزايدت الانقسامات. وعلا الصراخ. ثم قرر البعض الدخول في رهان مادي حول نتائج الحرب. أي حرب؟ لقد قلت لك للتو، الحرب في منشوريا.

طغى على الصراخ صوت امرأة تبكي تنوح وتلطم. فقد فتحت الرسالة الواصلة، فإذا فيها نعي زوجها. أخذت تشق صدرها وتنتف شعرها وتولول. اتجه الجميع نحوها في دهشة وحزن. وعندما مضت نحو بيتها وهي تلطم، ذهب الجميع الى منزلها يحاولون شيئاً من المؤاساة.

قبل أن نختم المشهد في ساحة راشيا، يجب أن ننتبه الى ملحم يخاطب سمعان في ذروة الجدل: قبل أن تربح حضرتك الحرب في منشوريا، تفضل سدد الدين الذي عليك. هل في امكانك تخيل المشهد؟ خناقة في راشيا، أول القرن الماضي، حول حرب بين انكلترا وروسيا واليابان؟

اعتقد ان المرة الوحيدة التي اجتمع فيها لبنانيون حقاً من دون نوازع طائفية دفينة، كانت أيضاً في راشيا، أو بالأحرى في قلعتها، العام 1943. بعد ذلك، عاد الجميع الى “يوم البريد” وحرب منشوريا. أو عادوا الى مذكرات كوندوروشكين وهو يتنقل على بغلته من راشيا الى مشغرة الى شبعا، وأمامه مشهد واحد: اجمل صور طبيعية في الأرض، ومجموعة بشر صغار يتقاتلون على حروب الدول الكبرى. وجميعهم ولاؤهم لأحد ما في خارج ما. وإذ ينتظرون جميعاً “الاخبار”، فإن كل واحد يريد منها ما يريد منها. وما يريده منها هو أن تحمل هزيمة جاره. وجاره في هذا اللاوعي الممزق بالنزاعات والمنافسات، يمثل كل حروب الأرض، وصولاً الى منشوريا، يوم لا اذاعات بعد، ولا تلفزيونات، ولا عاجل.. عاجل، وإنما بالكاد صحيفة في بريد يوم الجمعة.

مذاهب وأديان، وقرى محفورة في الصخور لا مكان فيها لأي قادم جديد. ومع ذلك، فالقادم الجديد لا بد له من الاقتحام لأن لا مكان آخر له. وعندما يكون من دين آخر، يكون هناك الاحتمال الأخير: يطعن شاهين في شبعا بالانقضاض الجماعي عليه وهو نائم تحت لحافه. لم يكن شاهين خرقاً للنظام السكاني فحسب، بل كان تحدياً واضحاً للنسبية الطائفية.

مثل مخرج سينمائي بارع ينقلُ كوندوروشكين ريشته بين جمال الطبيعة وبشاعة الطبائع، ومن دون ابداء أي رأي، أو أي موقف. عندما يصف يوم الجمعة في راشيا، تقفز الى ذاكرتك قرية هدلفيل في فيلم فرد زيمان “عزّ الظهيرة”. Hi noon: الوقوف على الحافة بين الثأر والقانون. بين السفر وترك العزّل لمصيرهم في مواجهة الرجل الشرير، وبين البقاء وخوض المعركة. أو بالأحرى المبارزة، التي هي صورة البشرية، سواء في قرية أو بلدة أو مدينة أو قارة. لا بد يا عزيزيّ ملحم وسمعان أن نفعل شيئاً من أجل منشوريا.

إذن، كنا دائماً هكذا، قبائل صغيرة ترفع أعلام سوانا. وأناس خائفون. النصر الوحيد الذي نحلم به ليس قيام الوطن، أو الدولة، أو القانون، بل ما هو أكثر سهولة بكثير: انتصار اليابان أو انكلترا، وأن يأتي يوم يهتدي فيههؤلاء الهراطقة فيتعلمون التحدث باللغة التي تحدث بها المسيح، الروسية يا ابناء الزانيات.

اكولينا ليست مجرد خادمة أخرى في الدير. لا. إنها خادمة روسية، عرقها عرق القيصر، والهبات القيصرية هي التي تموّل حياة الدير. وبينما تخضع اكولينا لنظام الدير، تمارس الغطرسة على رفيقاتها. وتعلمت الخادمة الشابة، جليله، كيف ترضيها وتخفف من حنقها المرضي. أخذت تخاطبها كل يوم بجملة روسية جديدة، كيف الحال يا سيدتي أكولينا، وكان وجه أكولينا الأجعد ينفرج حتى تكاد تبتسم ايضاً، لولا حرمة المقام. وتنتهي حكاية كوندوروشكين هذه المرة بأن تعود أكولينا إلى روسيا، وتروح جليلة تنتقل وتعمل مثل نحلة. أحياناً، كما ترى، يأتي الانتصار من تلقاء ذاته. احياناً، وليس دائماً. فالخلاص من الظلم عملية شائكة ومعقدة. وأكولينا كانت تعرف في قرارة نفسها أنها كانت تمثل نفوذ القيصر، لا لغة المسيح.

(1) “حكايات كوندوروشكين، لبنان قبل قرن بريشة روسية” في ترجمة ممتازة لعماد الدين رائف، توزيع دار المؤلف.

اضف رد