اخبار عاجلة
الرئيسية / home slide / “حرب” لوي فردينان سيلين “اللعين” تندلع روايتها من جديد

“حرب” لوي فردينان سيلين “اللعين” تندلع روايتها من جديد

23-05-2022 | 00:00 المصدر: “النهار”

فردينان سيلين.

المعطي قبال

أيّ روايةٍ “حربية” عثر عليها المنقّبون في أوراق الكاتب الفرنسي الكبير لوي #فردينان سيلين (27 أيار 1894- 1 تموز 1961) الذي لطالما وُصف بأنه “إنسان بغيض”، “معادٍ للسامية”، “مناصر للنازية”، “متشائل راديكالي”، و”عنصري مناهض للأجانب” الخ؟ إذا كانت هذه التوصيفات السلبية وغيرها قد ارتبطت بسمعته، فإنه يبقى أحد عمالقة الأدب الحديث بلا منازع. دخل رحاب الشهرة بفضل روايتين من أعتى الروايات، “رحلة إلى منتهى الليل”، و”موت بالاقتراض”. وضعه بعض النقاد في منزلة الكبار من أمثال وليام فولكنر وجيمس جويس. يعتبر أحد المجددين للآداب الفرنسية في القرن العشرين وتحديدا اللغة التي فجر من الداخل بنيتها البلاغية والتركيبية. قال فيه الناقد والفيلسوف جورج شتاينر، إن له دورا حاسما في الرواية المعاصرة.

ليست المرة الأولى يعثر فيها المنقبون والمتخصصون في نتاج سيلين على أوراق لمراسلاته أو على مخطوطات مسروقة أو محفوظة في حقائب داخل أقبية. فقد حرص نفسه على “بعثرة” مراسلاته ونصوصه، مخافة أن يستولي عليها خصومه وأعداؤه. كما عهد ببعض منها إلى سكرتيرته الخاصة ماري كانافاجيا. غير أن حزمة من الأوراق لم تسلم من السرقة لتختفي من بيته قرابة الثمانين عاما إلى أن عثر عليها الكاتب والصحافي جان بول تيبودا في العام 2021 وتعادل مترا مربعا من الأوراق الشخصية، من المخطوطات ومن النصوص غير المنشورة وبالأخص 600 ورقة من رواية “الانكسار” ورواية في عنوان “لندن”. إنه نفس المصير الذي عرفته رواية “حرب” التي تم اكتشافها ضمن هذه الحزمة وصدرت للتو عن “دار غاليمار للنشر” في 190 صفحة. وتتربع الرواية على رأس المبيعات في المكتبات والأكشاك.

يطرح الاكتشاف المتجدد لنصوص سيلين إشكالية قراءتها ونوعية التعامل معها. يختلف تلقي هذه النصوص عند صدورها بين الثلاثينات ونهاية الخمسينات، عن تلقي روايته أو رواياته اليوم. قراءته هي قراءة متجددة، تفرض في كل مرة إعادة ترتيب للعوالم، للشخوص، وللأحداث التي تعالجها وتتناولها. لذا يطرح السؤال: أليس قارئ سيلين هو ذاك الشخص المتعدد والمتجدد باستمرار؟

يأتي اكتشاف رواية “حرب” إذًا ليضعنا في قلب هذا الإشكال. فقد تم العثور على المخطوط الذي كتب ما بين 1933-1934، أي بعد سنتين من رواية “رحلة إلى منتهى الليل” الحائزة جائزة “رونودو”. إن كان القارئ هو المتحول، فإن الحرب في حلتها الجديدة تبقى هي الثابت، هي المستقبل، هي الهوس الذي سكن سيلين وهو مراهق. إذ التحق، خلال الحرب الكونية الأولى، بالخطوط الأمامية للجبهة وهو في سن الثامنة عشرة. وستبقى الحرب رفيقة دربه المكلل بالجروح، والاختفاء والسرية، والقدح اللاسامي والعنصري، وبالخوف من أن يغتاله الخصوم. حكم عليه وحكم على نفسه إذًا، أن يتعايش مع الحرب. لذلك كتب عنها اجمل وأقوى الصفحات. كما أخرجت الحرب إلى العلن الحقد الدفين الذي كان يكنه للضعفاء، للمقهورين ولمعذبي الأرض. دعا إلى منعهم من التطبيب والعلاج. وفي الرواية خص النساء والمغاربيين بقسط وافر من كراهيته. يعتبر أن دور النساء يقوم، لا غير، على إشباع رغبات المجندين والجرحى. يرى في النساء وفي الممرضات مجرد عاهرات. بذلك يبقى وفيا لمعاملاتها الدونية للنساء. عاشر سيلين الكثير منهن وكان مساره مكللا بالقطائع، بالخيانات والهجر: هناك إيفلين، نورا، عائشة، صوفي، سوزان، مارغريت، إيريكا، سيللي، ماري، إيديث، مولي، فيرجيني. واللائحة طويلة. ولما تمكن منه المرض وأدركه السن، بقي إلى جانب لوسيت التي توفيت عن مئة عام وعام وقاسمته تبعات الحرب والمنفى. كانت المؤنسة والحافظة لسره. فضل سيلين باستمرار علاقات التباعد الجغرافي أو العلاقات التباعدية مع النساء. يلتقيهن في نيويورك، كوبنهاغن، وبرلين. ويكره معاشرتهن اليومية. أما الجرحى من المغاربيين فينظر إليهم كأكباش فداء وأداة مسخرة بين يدي فرنسا. لا يسمي الجنود بأسمائهم بل يخاطبهم بنعوت متوحشة وحيوانية.
هذه الرواية محصلة ظروف سياسية واجتماعية كانت تحكمها قوانين العداوة والكراهية بين فرنسا وألمانيا التي انحاز سيلين إلى سياستها من دون مواربة. أي أن الرواية ابنة زمانها. ظهرت في حقبة تصالح فيها النازيون واليمين المتطرف مع النزعة الحربية والافتخار بموروث جنود الحرب العالمية الأولى ومثلهم العليا القائمة على إلحاق الهزيمة بالاخر بأي ثمن. يهاجم سيلين بلا هوادة الإدارة العسكرية التي تفضل تعليق الميداليات والنياشين على صدور جنودها وهم في حالة احتضار. كما يسخر من البورجوازية الفرنسية التي تعتبر جروح وانكسارات أبنائها مفخرة لها. في الرواية لوحات لاذعة السخرية لهذا التصرف.

يضع سيلين القارئ في الأجواء الرمادية بل السوداء للضواحي والأرياف التي تحولت إلى مسرح للمعارك، ومقابر للموتى. العنف وبالأخص عنف الحرب الكونية الأولى والثانية هي القاعدة والسند الذي يؤسس كتابة سيلين.

نتعرف في رواية “حرب” على فردينان، صنو باردامو في رواية “رحلة إلى منتهى الليل”. يقف فردينان وسط جثث رفاقه بعد إصابته في الرأس. وصل بصعوبة إلى مستشفى بالبادية قبل أن ينقل إلى مؤسسة ببلدة بوردي سير لا ليس، المدينة التي يبدو أنها أنشئت لاستقبال جنود المعارك في طور الاحتضار.

ما يميز سيلين ككاتب هي لغته الشعبية اللقيطة التي اعتبرها البعض مسا بـ”نقاء” الفرنسية فيما اعتبرها البعض الآخر “تدنيسا” لموروث لغوي هو سند الهوية الفرنسية. لكن سيلين يكتب عن الموت، الاجتراح، الكارثة، الخراب، وهو بذلك لا يخاف ولا يساوم لكي يظهر في هيئة شخص نظيف ومتزن. وعليه لم تتخلص فرنسا من قدائح الدكتور ديستوش، الملقب بسيلين، ومن لغته الوقحة، من رغبته في مصالحة فرنسا مع ثقافتها الشعبية، لغتها العامية، وروح القدح التي هي أحد مكونات العبقرية الفرنسية.