محمود الزيباوي|السبت03/02/2018
Almodon.com
بدأ الكشف عن هذا الموقع العام 1954، يوم عثر أحد الرعاة فيه على تمثال لأسد بازلتي. أوفدت “مديرية آثار حلب”، فيصل الصيرفي، لزيارة الموقع، فقصده مع الخبير الفرنسي موريس دونان، وجرت حملة التنقيب الأولى في العام 1956، وتبعتها حملة أخرى في 1962، وثالثة في 1964. في 1976، تولى علي أبو عساف، ومحمد وحيد خياطة، مهمة مواصلة التنقيب في الموقع، وقاما بهذا العمل على مدى عشرين عاما، بعدها رممت بعثة يابانية من “متحف الشرق القديم” في طوكيو آثار الموقع بين العامين 1994 و1995. نُشرت نتائج هذه التنقيبات بشكل علمي، وأثارت الباحثين الذين اختلفوا في تحديد هويّتها وتاريخها، وهذا السجال ما زال مفتوحا اليوم، وذلك في غياب أي شواهد كتابية تسمح بطوي النقاش المستمر.
أهمّ معالم هذا الموقع الأثري، معبد يشغل الربع الشمالي من مساحة التل المرتفع، يتقدّمه الأسد البازلتي الضخم الواقف كحارس بوابة في الناحية الجنوبية. شُيّد هذا المعبد فوق مصطبة كانت في الأصل جزءًا من باحة واسعة كُسيت أرضها بشكل متناوب بألواح من حجر البازلت وأخرى من الحجر الكلسي. يتم الدخول إلى المصطبة عبر مدرج حجري مؤلف من بضع درجات يسلكها المتعبّد بعد أن يتطهر بالاغتسال في حوض الماء القائم في الأصل أمام المدخل. تزين عتبة المدرج الأولى طبعة قدمين بشريتين تتميز بحجمها الضخم، ونجد عند العتبة الثانية طبعة للقدم اليسرى، ثم طبعة لليمنى عند عتبة المصلى، ويشير هذا الترتيب إلى طقوس معينة كان يتبعها كل داخل إلى المعبد، غير اننا لا نملك تعريفاً دقيقاً بهذه الطقوس. يرى علي أبو عساف ان هذه النقوش “تثير العديد من التساؤلات التي تخص الغاية أو الهدف من وجودها، ولا تتوافر لدينا قرائن نعرف في ضوئها السبب في نقشها على عتبتي مدخل المعبد، كما لا تتوافر لدينا نصوص أدبية تخصّ الموضوع، وفي هذه الحال نسمح لخيالنا في طرح بعض الأفكار حول الغاية منها. إنّ أول ما يتبادر إلى ذهننا هو أنّ هذه الأقدام الكبيرة بمقاييسها غير البشرية قد ترمز إلى دخول الرب إلى المعبد ووجوده فيه أو تحدد كيفية الدخول إلى المعبد، فعلى الداخل أن يقف على العتبة الأولى ليردد بعض الأدعية والتراتيل الدينية ثم يخطو بالقدم اليسرى، فيدخل المصلّى بالقدم اليمنى”.
يُجمع أهل الاختصاص على القول بأن المعبد يعود إلى مراحل عديدة. في البدء، شيّد البناء فوق مصطبة أقدم، وفي مرحلة ثانية شُيّدت مصطبة أخرى وهيكلاً جديداً، وأُضيف رواق خاص بهذه المصطبة في مرحلة ثالثة، كما جرى تسوير المعبد بسور خارجي. يتبع هذا المخطط الهندسي طرازاً معروفاً بـ”المعبد البيت”، وهو طراز المعبد ذي الغرفة الأمامية التي تسبق المصلّى، وهذا الطراز معروف في العالم الآرامي، ولا نجد ما يماثله في المعابد الآشورية والبابلية، كما اننا لا نجده في معابد الإمبراطورية الحيثية التي شملت الأناضول وجزءًا كبيراً من شمالي غرب الهلال الخصيب. من هنا، يمكن القول إن هندسة بناء معبد عين دارة تنتمي إلى تقليد سوري محلي، وهو تقليد قديم استمرّ على عدة عصور، وتبنيّه لا يسمح بتحديد تاريخ البناء. على العكس، تزين هذا المعبد مجموعة كبيرة من التماثيل والنقوش المجسّدة تنتمي إلى الفن الحيثي بشكل لا لبس فيه. أشهر هذه التماثيل هي تلك التي تحتل الواجهة الخارجية للمصطبة، وتمثل اسودا مجنحة لها رؤوس آدمية تعلوها ضفيرة مزينة بوردة في وسطها. من حيث الأسلوب الفني، تتبع هذه الأسود طرازاً ظهر في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وتعود على الأرجح إلى المرحلة النهائية من تشييد البناء. تشكل هذه الواجهة سدا للمعبد الذي حوى أنصابا ونقوشاً أخرى تمثل آلهة يُصعب تحديد هويّتها بدقّة، وهذه الصور حيثية بالدرجة الأولى، وليس لها أصول سورية، بمعزل عن هويّة أصحابها.
على الصعيد الزخرفي، اعتمدت حلّة المعبد طريقة محلية خاصة في استخدام الحجر الكلسي والألواح البازلتية لا نجد ما يماثلها في معابد الأناضول. اعتُمد الحجر الكلسي لتبليط الأرضيات والعتبات، واعتمد الحجر البازلتي لنقش الزخارف التصويرية، وقد ظهر هذا الأسلوب في موقع آخر اكتُشف في نهاية القرن الماضي داخل قلعة حلب، ويُعرف باسم “معبد إله العاصفة”. مثل معبد عين دارة، يعود هذا المعبد إلى حقب عمرانية متعددة، وتتميّز حلّته النحتية بطابعها الحيثي، وأهم شواهدها سلسلة من الألواح الجدارية البازلتية المنقوشة تصطفّ على جداره الشمالي.
كما في”معبد إله العاصفة” في قلعة حلب، يجمع هذا التزاوج بين الميراث المحلّي والتقاليد الأناضولية، ويشكّل انطلاقة لما يُعرف بـ”الفن الحيثي الحديث” الذي طبع العمارة الدينية المشرقية اللاحقة في جنوبي شرق الأناضول وشمالي المشرق، وقد اتبع النبي سليمان كما يبدو هذا النهج حين شرع في بناء الهيكل في السنة الرابعة من حكمه.
دُمّر موقع عين دارة بشكل كامل خلال الحرب الدائرة في منطقة عفرين، ولم تسلم تماثيله ونقوشه من هذا الدمار. ونخشى أن يلحق هذا الخراب المتواصل بمواقع أخرى مجاورة مدرجة على لائحة “التراث العالمي”، منها ثلاثة في “جبل سمعان” حيث تحتدم المعارك حاليا، وخمسة في محافظة حلب.