الرئيسية / home slide / حال الموارنة

حال الموارنة

15-03-2023 | 00:40 المصدر: “النهار”

سمير عطالله

سمير عطالله

قصر بعبدا (تعبيرية).

قصر بعبدا (تعبيرية).

“العين عمياء، والإنسان لا يستطيع ان يرى إلّا بالقلب”.
دو سانت اكزوبيري

تتشابه التراجيديا المارونية واليونانية على نحو تراجيدي هو ايضاً. وكما في المسرح اللاتيني، تتفاوت رسالة الصوت والصدى علوّاً وانخفاضاً. ويتصارع الأبطال، ويعمّ الحزن، ولا تنزل الستارة إلّا وقد بلغ المشهد الدرامي ذروته. منذ خروجهم على الروم، وهجرتهم الى جبال لبنان، حَكَمَ عليهم قدرُهم بالإنقسام الدائم بين أثينا واسبارطة. واحدة تعلي الفكر والعقل، وأخرى تؤمن أنه عالَم بدأ بقايين وهابيل ولن يتغيّر. ونظراً لقلّة عددهم، أو بسببها، ظلَّ الصراع قائماً، وعنيفاً، أولاً ضمن الجماعة نفسها، وأحياناً مع الآخرين، وعلى ما قال أبو الطيّب المتنبي في وصف الحصار القدري: “وسوى الروم خلف ظهرك روم”. إنهم في كل مكان. وللموارنة خصوم في كل زمان. مضطهَدون، وليس لمثل أديرة الصمود مثيل في مناطحة صخرة سيزيف وكل صخور الأرض.

وحده الخيال يمكن ان يتصور أين اعتزلوا، وأين احتموا، وأين أصرّوا على طريقتهم في العبادة ومفهومهم لآلام يسوع وأمه مريم. نقلوا هذا السلوك الصخري الى السياسة والاجتماع. ونقلوه الى كنائسهم في كل الديار. وكانت تُبنى لمار مارون كنيسة في اول الشارع، فتُبنى في آخره كنيسة لمار الياس الحيّ. أما في الوطن نفسه فكان الانقسام تحت سقف الكنيسة الواحدة: أهل “الحارة” على اليمين، وأهل “الحوش” على الشمال. والصف الأمامي لمن كان أقرب الى الوجاهة، وليس الى التقوى.

بنى #الموارنة “أوطاناً” في الخارج، كما سمّاها سعيد عقل، وتقاتلوا في الداخل على أرض صغيرة “ليست ذات زرع”. وعندما تأمّل البطريرك الياس الحويك، الذي كان يفضل الجلوس على الأرض، الخريطة الجرداء، تساءل من أين ستأكل الرعيّة؟ وطلب ضمّ سهل البقاع لكي لا تكون مجاعة كبرى تفرغ البلد نهائياً.

ليس الموارنة فولكلوراً اسبارطياً على الدوام. كَثُرَ بينهم، ذوو العقول، أو ذوو الحجا، كما قال أخطلهم الصغير. كثر علماؤهم ومتعلّموهم ونجحت نخبهم، وتفوّق مجتهدوهم، وفاقت معاهدهم، وأبدعت أديرتهم، وأجاد قضاتهم، وساندت نساؤهم، وتجلّت عائلاتهم في بناء بيوتهم.

هذه ليست دراسة عن الموارنة، لا في أحقيّتهم ولا في شططهم، ولا في ظلمهم أو مظلوميتهم. وعندما انتقدُ، فغيرة عليهم. والنقد الدائم للشطط الماروني المزمن، لا يعني ان الطوائف الأخرى ذهب لا فساد فيه. إنما أنا أشعر، مع كثيرين جداً، ان ساسة الموارنة أوشكوا القضاء على الجماعة، وانهم ينحرون معهم سائر المسيحيين، وان الصباغ السياسي يكاد يغطي تاريخ البياض الأدبي والاجتماعي، وحتى بعض الأدوار التاريخية التي لعبها الاكليريكيون .

المسيحيون اليوم هيكل متصدع بسبب فساد سياسي متفاقم بلا حدود. وبسبب التمادي الأحمق في سلوك الصفقة، حتى لم يبقَ شيء يباع. ما هو خطأ المسيحيين الآخرين، وكيف يدفعون دائماً الثمن هم وأبناؤهم وذووهم؟ دائماً صورة هجرة وفوضى وحزن وموت وصراع ومعارك. مرة دون كيشوت، ومرة رفيقه سانشو بانزا… طواحين في كل الحالات. والجماعة خاسرة على الدوام، لكنها موعودة باليوم الذي لا يأتي.

التراجيديا المارونية تتجاوز اليوم عبقريات سوفوكليس. يتنافس على المقعد الرئاسي الأخير، رجلان. الأول حفيد رئيس راحل قُتل والده ووالدته وشقيقته في مجزرة ارتكبها حزب ماروني. الثاني نجل رئيس، من البلدة نفسها، قُتل وهو في الطريق لحضور اول حفل استقلال بعد الحرب. كل منهما يمثل الدراما المارونية في أعلى صنوجها.

مرشّحا الرئاسة المارونية يتيمان بريئان كانا في عمر الطفولة ساعة القتل الهمجي. طبعاً كل قتل، همجي، ولكن في الجريمة السياسية، العار لا يُمحى. وإذا كانت الحرب هي الحرب، كما يقول الفرنسيون، فإن ما حدث في إهدن، كان أقسى، واغتيال رينه معوض كان أبشع صور القتل المجاني.

لكنْ ألم يُقتل في لبنان الحضاري نحو 150 ألف إنسان؟ هل كان أحد يتخيل ان “بلد الأرز” سوف يتحول الى اوقيانوس من الموت والخراب والغاب؟ لم يكن اولئك الموارنة وحدهم، بل كانوا جمعاً، ومَن معهم ومَن ضدهم، طوائف طوائف.

عندما توقف القتال من دون ان تنتهي الحرب، كان الموارنة على سلاحهم. زعيم في المنفى، وزعيم في زنزانة انفرادية محزنة نحو عقدين، وقسم ثالث يعقد الاتفاقات من “أجل المسيحيين”. كم تعقد صفقة بيع أو شراء، إلا “من أجل المسيحيين”؟ لم تعطَ وظيفة أو منصب أو نفوذ إلا من أجلهم. أُهينوا، وأُذلّوا، وهجِّروا، وشُتتوا، وفُرقوا، ولكن من أجلهم. من “أجل حمايتهم”. كان الزعيم هنا فصار هناك. نعمل من أجلكم. الملحمة المارونية في أعلى صوتها.

من عرينه في جزين، أطل ادمون رزق بكامل قلبه وكل عقله في “نداء الوطن” ليتحدث عن الحياة في زمن الصلاة. 89 عاماً لبنانية حياة باهرة بين المسيحيين والمسلمين، أو الأصح بين المسيحية والاسلام. اللبنانية كصيغة عميقة للألفة. لا للتعاقد. للعيش لا للتعايش. للحياة لا للتسامح.

أعاد إليَّ حديث ادمون رزق ذكرى مشهد ونحن على شرفته، إذ أشرق قبالتنا قمر في حجم الشمس. قمر مشغرة، وبدر وادي التيم / يا جبهة العالي وميزّرة بالغيم.

أي غيم أيها الحبيب أبا أمين؟ “أشعر أنني وحيد مثل غيمة” قال وود سوريش وهو يتأمل حوله في “قضاء البحيرات”. كم هي موحشة وحدة الأقضية الجميلة. الشلال يهدر وحيداً في جزين، والجمال يعتكف وحيداً في الربوع، والأودية صدى السنين الحاكي.

ماذا حدث يا استاذي وصديقي؟ أين تبدد وأين تناثر حلم العقل والصفاء و”رنين من الفرح”. من أين جاءوا يعبثون بهذه الطوبة الأولى في ربيع الشرق.

في أي حال، هو عيدك يوم يوسف البار، كما ذكرت. وقد تعوّدنا منذ الشباب أن نحييه معك. وسوف أحضر لكي أقبّل جبينك، غير عاتب انك عندما سمّيت أشقاءك للزميلة نوال نصر لم تعطِها اللائحة كاملة.