الرئيسية / أضواء على / «جنة النساء والكافرين»… رحلة أولى للتفرّج على فرنسا

«جنة النساء والكافرين»… رحلة أولى للتفرّج على فرنسا


حسن داوود
Feb 15, 2018
القدس العربي

أمضى محمد جلبي أفندي، الموفد من قبل الصدر الأعظم العثماني إلى فرنسا، أكثر من نصف رحلته التي استمرت ما يقرب من السنة، في الطريق. في سرده لوقائع رحلته- كتب أن وصوله إلى فرنسا، من مرفأ إزمير حيث أبحر على متن سفينة فرنسية، استغرق من الرحلة نصفها (خمسة أشهر). ثم هناك التنقل بين أنحاء فرنسا، ذاك الذي لم يكن يسيرا، إذ اعتورت بعض رحلاته مشقّات تتصل بالطقس ووعورة الطرقات. ثم أنه، كمدوّن لرحلته، أفرط في وصف وقائع هذا التنقّل بما يجعل قارئه، ينتظر بشغفٍ تحوّله عن وصف الجياد التي أعدّت لمرافقيه لدى كل انتقال ومَن انضم منهم إليه ومن سبقه في الذهاب أو تبعه فيه. أقصد أن الحاجة إلى قراءة فرنسا موصوفة بعيني عثماني في سنة 1720 جعلت كل تفصيل رسميّ أو بروتوكولي شكلا من الانصراف عن الموضوع المأمول.
كانت وقائع الرحلة إذن أول نص مكتوب في وصف ذلك العالم المختلف. وفي ما يتعلّق بالفرنسيين، هناك، بدت زيارة محمد جلبي الوجهة المقابلة للدهشة التي أذهلت قرّاءه. كان العامة الفرنسيون يتجمعون، في كل مدينة يبلغها موكبه، منتظرين أن يشاهدوا هؤلاء الغرباء (وهو يكتب أن تجمعهم عائد إلى فضولهم لمشاهدته هو). وهم يتبعونه في تجواله وتنقلاته، متفرّجين على هذا «الكائن» (بحسب ما يورد كاتب التقديم للكتاب)، حتى في أثناء تناوله الطعام في مقرّ إقامته. وربما أتيحت لهم هذه المشاهدة لكونها متاحة لهم في ما خصّ ملكهم الذي كان تناوله الطعام فرجة لهم يتجمهرون لها.
وليس في الكتاب ما يشير إلى أنه عمل على تعزيز ذلك الاختلاف بينه وبين الفرنسيين، لتكون الفرجة أكثر إدهاشا. الأغلب أنه أدرك أنه لن يحتاج لذلك إلى أكثر من أن يكون عثمانيا كامل الأوصاف العثمانية، وهذا ما كان فعله أصلا بضمّه إلى الوفد الذي رافقه إماما ليؤم الصلاة، وطباخا، ومعدّا للقهوة (التركية)، ورجلا لخدمة الغليون الذي يدخّنه. ولنضف إلى ذلك الهدايا التي حملها معه للملك وللمسؤولين الكبار، تلك التي ينبغي أن تُظهر صناعتها ما هو غريب عن مألوفهم.
وهم الفرنسيون أظهروا له حتى الأشياء التي قلّما يظهرونها من خزائنهم. في كتاب رحلته أمعن في وصف الجواهر التي تحتويها خزانة الملك، ليس هذا الملك، بل خزانة من سبقه ومن سيرثها من بعده، بحسب ما قال أحد الفرنسيين لمحمد جلبي. ثم اللآلئ التي راح يظهر هذا الأخير معرفته بها فيما هو يندهش من أوصافها وأحجامها. أما ما يتعدى هذه الكنوز فهناك العجائب الأخرى التي منها الحدائق الملكية وغير الملكية التي أمعن في وصفها، وكذلك زرعها الذي جعله يرى كيف أن الفرنسيين أكثر معرفة بها، فوصف كيف أنهم جلبوا نباتا وأشجارا من أنحاء العالم وأحاطوها بالبيئة الطبيعية التي تلائمها. كما أنه لبى دعوتين لزيارة مصنعين، واحد للسجاد وآخر لصقل المرايا يملكهما الملك لويس الخامس عشر الذي كان آنذاك دون الخامسة عشرة من عمره. ومن ذلك أيضا زيارته للإنفاليد، المختص بمعالجة المعاقين ورعايتهم، وقد أثار انتباهه كيف أنهم يقدمون لهؤلاء الطعام مصحوبا بكؤوس النبيذ.
ومما لم تكن متاحة مشاهدته في أسطنبول هي الأوبرا التي دعي لحضور عرضها مرتين، في مكانين مختلفين أحدهما في قصر الملك حيث أُجلس إلى جانبه. كتب جلبي أنه ذُهل خصوصا من تغيّرالمشهد التمثيلي الغنائي أمامه (الديكورات) فبدا كأن العالم انتقل به إلى مكان آخر، فيما هو قابع في مكانه، وكان هذا يحدث في وقت لا تُجارى سرعته كما قال. ومما أدهشه أيضا المرصد الحديث الذي مكّنه من رؤية زحل قريبا ذلك القرب. وكذلك القصور العامرة بأثاثها الذي كان يصف ألوانه وأقمشته وصفا تفصيليا ليقول كل مرة ألا شيء يضاهي ما يراه، وأنه الأفضل في العالم، غير منتظر ما سيقول السفراء الآخرون الذين أرسلهم الصدر الأعظم، في إطار التعرف على أوروبا، إلى فيينا وموسكو وبولونيا، إضافة إلى فرنسا.
لم يلبّ محمد جلبي أفندي فضول قرائه بالتعرف على تفاصيل من العيش الفرنسي بقدر ما فعل رفاعة الطهطاوي. ربما يعود ذلك إلى المئة سنة الفاصلة بين الرحلتين اللتين تخللتهما معرفة المصريين بفرنسا وحضارتها في أعقاب الحملة الفرنسية على مصر. لم يصف جلبي عيش الفرنسيين اليومي، كما فعل الطهطاوي، لا طريقتهم في تناول طعامهم ولا في حفلات رقصهم ولا في تربيتهم لأطفالهم، ولم يهتم بنظام التعليم أو بالقانون الصحي الذي أثبت الطهطاوي قانونه كاملا، إلخ. لكن السفير العثماني ذكر في رحلته المبكرة كيف أن باريس مدينة ضخمة، لكن ليس على قدر ما هي أسطنبول. أما ما يوهم بأنها أكثف سكانيا، ودائما بحسب ملاحظته، فهو خروج النساء إلى الأسواق وعملهنّ فيها، بينما ظاهر أسطنبول متروك للرجال وحدهم.
أما ما فعلته تلك الرحلة في أسطنبول حاضرة الخلافة آنذاك فهو التحريض على بناء قصور ودور مشابهة لتلك التي زارها الجلبي في فرنسا. لم يتأخر الصدر الأعظم، الوزير الأول، عن بناء قصر جديد للسلطان أحمد الثالث، على غرار ما كان يبني الفرنسيون قصورهم. لكن رحلة التعرف المتبادل بين الحضارتين استمرت في إحدى جهتيها، أو هي اتخذت طريقين مختلفين في كل منهما. لكن ما يهم هنا هو الغلبة التي أبقت أثر فرنسا وأوروبا مقصد الخيال والثقافة والعيش. ما زلنا، حتى الآن، ننظر بقوة الدهشة نفسها إلى الحياة كيف هي هناك. ليس القصور والدور فقط جرى بناؤها على طريقة «هم»، بل الأوبرا في ما بعد، والموسيقى وصولا إلى آلاتهم نفسها. وارتداء السراويل الإفرنجية، وتناول الطعام بالشوكة والسكين والطبق الكبير الذي في الوسط، بحسب ما وصف الطهطاوي مستهجنا، إلخ.
كانت زيارة محمد جلبي رحلة أولى في سياق التحوّل الذي لم ينته أفقه عند حدّ بعد، رغم الثلاثمئة سنة على بدايته تلك.
»جنة النساء والكافرين» كتاب محمد جلبي أفندي صدر عن دار الريّس قدّم له مترجمه وكاتب مقدّمته خالد زيادة ـ 120 صفحة ـ 2017.

٭ روائي لبناني

اضف رد