
- ابراهيم بيرم
- المصدر: “النهار”
- 25 حزيران 2020 | 14:59

جنبلاط والحريري (نبيل اسماعيل).
قبل أيام معدودة، أطل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط على محطة تلفزيون “فلسطين” الناطق بلسان السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية، وقد قال كلاماً طويلاً حول الوضع الفلطسيني، واستطراداً مآل الواقع الإقليمي المتشعب. واللافت في الإطلالة أن المذيع سأله عن الرسالة التي يوجهها للشعب اللبناني ليرد: “لا تراهنوا على الذين يريدون تمزيق الوطن اللبناني، ولتكن اليوم الأولوية للإصلاح السياسي والاهتمام بالمعيشة وتغيير النظام الاقتصادي من خلال الضرائب التصاعدية، ولا تلهكم شعارات كقرار 1559 وغيره، هذا هو الفخ الأكبر المنصوب لنا”.
كلام زعيم المختارة كان عبارة عن نص مميز ولافت، إذ يظهر فيه صاحبه وخصوصاً في خاتمته، بصورة المتخوف من “فخ” قد أعد يتمحور حول الدعوة التي بدأت تستعاد في نصوص بعض السياسيين والقوى وهي الآيلة الى العمل على تنفيذ مندرجات القرار الدولي الصادر أواخر عام 2004، الرقم 1559، والمفضي في رأس البعض الى نزع سلاح “حزب الله”.
النص الجنبلاطي، لم يكن كلاماً عابراً، بل إنه أتى في سياق عملي – نظري متكامل، بدا وكأنه انعطافة وضمن مسار تحرك سياسي تجلت مقدماته الحاسمة في زيارته الشهيرة قصر بعبدا، ثم بزيارته عين التينة والتي تلاها بزيارة بيت الوسط. ومن المقرر أن يتوج هذا المسار بلقائه المرتقب مع وفد من قيادة “حزب الله”. وفي الإطار نفسه، يأتي لقاء المصالحة مع رئيس الحزب الديموقراطي اللبناني النائب طلال إرسلان الذي تم برعاية الرئاسة الثانية.
التحرك الجنبلاطي تواكب مع كلام على توجيهات أعطاها الزعيم الاشتراكي لكوادر حزبه، فحواه عليكم التواصل مع كل القوى السياسية من دون استثناء، وإلغاء المتاريس والمحاذير السياسية السابقة.
ويندرج في السياق، التهدوي – الانعطافي عينه، العزوف عن إطلاق التغريدات والمواقف المتوترة التي اعتادها سابقا، والتي تركزت خصوصا في العهد والحكومة الحالية على “التيار الوطني الحر”.
ولا شك أيضا، ثمة من يرى في المشاركة الجنبلاطية في اللقاء الوطني الأخير في قصر بعبدا، حلقة لا تنفصم عن مسلسل المواقف والخطوات الإيجابية عينها.
من المؤكد أن ثمة من يرصد هذا الحراك الجنبلاطي ليطلق العنان لهواجسة المتأتية وفحواها أن عليكم ألا تطلقوا العنان لرهاناتكم، اذا يصعب حد الاستحالة على هذا السياسي أن يظل ثابتاً على مواقفه السياسية الأخيرة، أو ملتزماً بما أوحى اليه من انعطافة جديدة.
ولكن الأمر المهم والايجابي بالنسبة إلى اللاعبين السياسيين وخصوصاً أولئك المحسوبين على محور الحكم والحكومة الآن، هو أن هذا الزعيم الوازن في اللعبة السياسية، يمكن الاستنتاج أنه في اصطفاف معهم في الخندق إياه، وإلى أجل غير معلوم، وتلك “فضيلة” سياسية يعتد بها وتثقل موازين هذا الفريق في المشهد السياسي، لأنه تثبت بفعل التجارب الطويلة أن وقوف الرجل المخضرم إياه في اصطفاف ما، يقوي ولا شك هذا الاصطفاف، ويعطيه قيمة أكبر نظراً لما يمثله ماضياً وحاضراً.
وفي كل الأحوال، ينطلق فريق الحكم والحكومة من وجود جنبلاط على تخومه، من كل نقطة قوى ليستعيض بها عن كثير من نقاط الضعف والعجز عنده.
والمهم الآن عند المراقبين السياسيين، هو البحث عن جواب على سؤال يتصل بالدواعي الخلفية التي أملت على جنبلاط هذا الموقف السلس، بل الإيجابي في مرحلة كان يمكن فيها الانتقال بسهولة إلى موقع النقيض، لا سيما في لحظة انعدام الوزن السياسي الحاصل، مرحلة خلط الأوراق الفارضة نفسها على الساحة والواقع السياسي منذ أكثر من 9 أشهر.
القراءات لهذا الدواعي متعددة، فهي بطبيعة الحال تبدأ من المقولة القديمة القائلة إن جنبلاط حريص على الحيلولة دون ذهاب الأوضاع نحو الفوضى والتوتر والاحتقان، وحيث ليس من مصلحته ولا من مصلحة شارعه الطائفي نفسه في وسط هذا الاحتدام المفتوح دوماً على الاحتمالات السوداوية.
وعليه، ليس مفاجئاً أن يحذر مما أسماه “فخ” الدعوة الى القرار 1559، وهو الذي سبق له ودفع منذ عام 2004 وحتى عام 2008 الثمن الغالي من جراء ريادته للفريق السياسي الذي كان له في تلك السنين الخوالي شأنه وحضوره الفاعل، وحاول استغلال مفاعيل القرار 1559 وركوب مركب الريح الخشن الذي نشأ عنه بفعله لاستتباع الفريق الآخر، وجعله يسلم لـ “الأمر الواقع” والمعادلة المحلية – الاقليمية – الدولية التي استجدت بفعل اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
لا ريب في أن جنبلاط وسواه يدرك تماما أنه في مناخات “حزب الله” والرئيس نبيه بري، تترسخ قناعة مفادها أن ثمة في الداخل والخارج من يسعى لفرض أجواء سياسية متوترة قابلة للانفجار على غرار ما آلت إليه الأوضاع غداة استشهاد الرئيس الحريري وما تلاها.
لكن جنبلاط، وفق ما ينقل عنه بعض أعضاء دائرته الضيقة، أبلغ إلى من يعنيهم الأمر أنه لن يعيد عجلة التاريخ إلى الوراء، وتحديدا إلى ما قبل أكثر من عقد ونصف عقد من السنين، فذلك عهد قد ولى له ما له وعليه ما عليه.
ليس “الخوف والهاجس” وحده بوصلة المسار الجنبلاطي، فالرجل يقدر تماما حجم الأثقال والضغوط التي ينطوي عليها الوضع الحالي الناشئ منذ أشهر عدة على كل المستويات، ويقدر بطبيعة الحال أحجام القوى.
وعليه، فهو ينطلق هذه المرة بحراك يراد منه التأسيس لمرحلة لاحقة، بدا ولا شك بعد أشهر قليلة من معالمها التفكير جديا، “بتسويات” تتصل بالرئاسة الأولى، وبتجربة شراكة حكومية جديدة تضم غالبية الأطراف الوازنة إن لم يكن كلها، وذلك أجدى من العودة الى التفكير بلغة “الالغاءات” والفرض التي جربت في السابق فأحرقت الأصابع.
وفي السياق عينه، ثمة من يتكلم في الغرف الموصدة عن أن جنبلاط يجد في الرئيس بري سنداً، لذا فهو (جنبلاط) كان على علم بكلام فحواه أن بري سعى الى اقناع الرئيس سعد الحريري بفوائد مشاركته في اللقاء الوطني في قصر بعبدا كمقدمة لازمة لكسر الجليد القائم بينه وبين الرئيس ميشال عون، لتكون الخطوة التالية لاحقاً، لتمهيد السبل لعودة الحريري الى المنصب الذي تركه قبيل أشهر.
ومهما يكن من أمر، فإذا كان جنبلاط على قناعة بأنه ليس من الحكمة إطلاقاً تجريب المجرب، أيام كان رأس حربة مشروع 14 آذار، فإنه يعي تماماً ايضا انه ليس من المصلحة له أن يقف مكتوفاً، وأن يظل على موقف الواقف على التلة أو ضفة النهر.