04-08-2022 | 00:10 المصدر: “النهار”


جبران تويني.
ليس من السهل أبداً على مؤسّسة إعلامية أن تعمّر حتى عامها التسعين، تحت وطأة أشرس الهجمات وأعتى الظروف، وتظلّ قادرة على أن تحفظ لنفسها مكانها الريادي، وتحافظ على مبادئها وقناعاتها الوطنية أولاً والمهنية في الدرجة الثانية، مقدّمة في سبيل ذلك أكثر التضحيات ارتقاءً، حين يندمج حبر المطابع بدم الشهداء.
إنها “النهار” في عيدها التسعين، لم تنل منها الضربات برغم رعونتها وخشونتها، ولم تخدش صباها المتجدّد، برغم ثقل السنوات وقساوة التجربة، فابنة التسعين الوحيدة الصامدة بين أبناء جيلها ثابتة الخطى في السباق التنافسي على الصدارة والريادة، في سعي دائم ومتجدّد في الوقت عينه الى ملء كل فراغ استهدف شموخها بنظرة ثاقبة الى المستقبل، متخطّية آثار الهرم والشيخوخة التي حلّت على زميلات لها، فأسقطتهنّ في براثنها وغيّبتهنّ عن الساحة.
لم يكن بالقليل أبداً ما واجهته “النهار” في عقودها التسعة، وإن كانت المرحلة الأقسى تجلّت في منتصف العقد الماضي الذي انتزع من مساحتها الفكرية والمهنية والوطنية العابرة لحدود الوطن الى الفضاء العربي والدولي، قلمين تجاوزت حدودهما التعبير المهني ليشكّلا شرارة حركة اعتراضية سيادية عابرة للطوائف والأحزاب والتيّارات.
من #سمير قصير الى #جبران تويني، جلجلة لوّنت طريقها على صفحات “النهار” بالأحمر، مؤكدة أهمّية الدور والموقع والرسالة التي كانت الهدف الحقيقي من وراء الاغتيال.
تلقف الكبير غسّان الرسالة الأولى باغتيال سمير قصير، ولم ينحنِ عندما وُجّهت إليه الرسالة الثانية باغتيال جبران، فكانت المانشيت التي صدحت الى ما أبعد من أولى “النهار”: “جبران لم يمت والنهار مستمرّة”.
مرّ على اغتيال جبران ١٧ عاماً ولم تزد ورقة على ملفّ التحقيق الفارغ منذ اليوم الأول للاغتيال. لم يَعْنِ ذلك أبداً أن أسرة النهار أو اللبنانيين الأوفياء لخط المؤسسة ومبادئها لم يتلقفوا الرسالة، تماماً كما فعل غسّان الأب، وتماماً أيضاً كما فعلت نايلة الحفيدة. لم تحد “النهار” عن خطّها المستقل، ولم ترضخ للترهيب الجسدي تماماً أيضاً كما فعل جبران وسمير في حياتهما، وبنضالهما بالقلم وحرّية الكلمة في مواجهة الترهيب الفكري.
وعلى أهمّية الدور الرائد محلياً وعربياً للصحافة اللبنانية وعلى رأسها “النهار”، لم يحظ شهداء الصحافة بالحقيقة والعدالة، وإن كان الهمس بالمجرمين أصدح من الأحكام المكتوبة.
من نسيب المتني (أيّار ١٩٥٨)الى فؤاد حدّاد وكامل مروّة وإدوار صعب وسليم اللوزي ورياض طه وصولاً الى سمير قصير وجبران تويني (كانون الأول ٢٠٠٥) أقلّ من خمسة عقود كانت شاهداً على الاستهداف الممنهج لحرّية الرأي والتعبير، ولكن أيضاً للسلطة الفاعلة والمؤثرة التي تملكها الصحافة في التغيير وتكوين الرأي العام والتأثير في السلطات والقوى والأنظمة الحاكمة.
ببضع رصاصات أو بضع أصابع من المتفجّرات، تسقط أقلام صارخة وتُخترق حصانات يفترض لها أن تكون مقدّسة لأصحاب السلطة الرابعة، ولا تنكفئ آلة الاغتيال ما دام مشغّلوها يتمتعون بالحرّية والإفلات من العقاب، وما دامت القوانين المرعيّة تعجز عن حماية الأقلام الحرّة، فيما تُسخّر، الى جانب أصحاب السلطة لحماية المأجورة منها.
لم يكن سمير قصير الذي اغتيل في تفجير سيّارته في الأشرفية في حزيران ٢٠٠٥، أو جبران تويني الذي اغتيل في تفجير مماثل في طريقه الى مكتبه في “النهار” في كانون الأول من العام نفسه، مجرد صحافيين ينقلان واقعاً أو يسردان واقعة، بل كان كل منهما، من موقعه وفكره، يحمل – بدراية ربّما أو بغير دراية – مشروع حلم سيادي واستقلالي، تجلت بذوره في شرارة ثورة أطلقتها كلماتهما المكتوبة قبل أن تتحوّل على شفاه جبران الى قسم وطني يصدح مع كل ذكرى لشهداء ثورة الأرز، تماماً كما يصدح النشيد اللبناني في ذكرى استقلال لم يكتمل.
أما “النهار”، فبرغم الضربات التي تلقتها بالاغتيالين أو بفعل الأزمة الاقتصادية والظروف المالية التي خنقت الإعلام المستقل، أو بنتيجة انفجار مرفأ بيروت الذي نال من مكاتب المؤسسة ومن أعضاء في أسرتها، لم تحد عن خطها أو تخرج عن نهجها الرصين الذي يليق بأعوام خبرتها ونضوجها التسعين، مضيفة الى تلك العقود التسعة نكهة الحداثة ومواكبة العصر مع دخول الصحافة الفضاء الإلكتروني. وهي نجحت في خوض غمار الانتقال من النمط التقليدي الى النمط العصري والحديث مواكبة بذلك الإعلام العالمي، محافظة على موقعها رغم كل الشظايا التي تنهال عليها في اختبار يومي يجهد لضرب صمودها وانتزاع مشعل حرّية قرّرت أن تحمله تحيّةً لدماء أريقت في سبيل حماية لبنان وتحصين سيادته وحرّية الفكر والتعبير فيه.
Sabine.oueiss@annahar.com.lb