الرئيسية / أضواء على / ثقافة عصر النهضة والهويات الجماعية

ثقافة عصر النهضة والهويات الجماعية

 

موريس عايق
ا
لحياة
01062018

تناول قيس ماضي فرو في «ثقافة النهضة العربية وخطابات الهويات الجماعية في مصر وبلاد الشام» مجموعة متنوعة من الأسئلة، يمكن لكل منها أن يكون موضوعاً لكتاب مستقل، غير أنها بمجموعها تلتقي حول عصر النهضة العربية.

يبدأ فرو بالتساؤل عن معنى النهضة ومداها الزمني وكيف نظر إليها المثقفون العرب اللاحقون. حيث تناول تحليلاتهم للنهضة ومعناها وأسبابها ونتائجها مبيناً أن هذه التحليلات ارتبطت بشكل وثيق بالخلفية الأيديولوجية للمثقفين العرب، فقد ظهرت تحليلات طبقية أو قومية عربية أو إسلامية بنزعة يسارية أو إصلاحية أو حتى معادية للنهضة بمجملها باعتبارها دعوة للتغريب. سعى فرو إلى تبيان أن مجمل قراءات النهضة اللاحقة كانت ايديويوجية وقد طغى عليها البعد النصوصي باعتبارها قراءة في أعمال النهضويين أكثر من اعتمادها على التحليل الاجتماعي. بهذا المعنى لا تقدم هذه القراءات الكثير لفهم إشكالية خطابات الهويات الجماعية، كونها هي نفسها منخرطة في ذات النزاعات والرهانات الأيديولوجية التي بدأت مع عصر النهضة.

بعدها تناول فرو موضوعه المركزي والمكرس لخطابات الهويات الجماعية في عصر النهضة الذي بدأه بالتمييز بين الهويات الجماعية التقليدية، التي تعرف الناطقون بالضاد إلى أنفسهم من خلالها، والهويات الحديثة التي ظهرت خلال عصر النهضة، مستعيناً من أجل هذا بتمييز انتوني سميث بين الاثنية، كهوية تقليدية، والقومية، كهوية حديثة. فميز بين الشكل التقليدي للعروبة، كما استُخدمت في التراث في مواجهة الشعبوية مثلاً، والشكل الحديث للهوية القومية. لهذا اعتمد فرو مصطلح «الناطقون بالضاد» على مدار الكتاب للإحالة على العرب، ولم يستخدم أي تعبير يتضمن هوية ما، وهو الذي سيحاول في هذا الكتاب تحليل خطابات الهوية.

عرض فرو لنظريات القومية لدى كل من إرنست غيلنر وإريك هوبسباوم وبنديكت أندرسون، التي تربط نشأتها بظهور ثقافة عليا متجانسة ومعيارية مرتبطة بنظام تعليمي حديث قادر على خلق هذه الثقافة وتعميمها، وعلى صحافة مكتوبة تسمح بخلق جماعة مُتخيلة مشتركة ومتعاصرة زمنياً تكون نواة للأمة بوصفها جماعة مُتخيلة. فاهتم فرو بمتابعة تطور التعليم في بلاد الشام، الذي انطلق مع البعثات التبشيرية وارتبط بها في شكل وثيق بينما تأخر دور الدولة العثمانية والنخب الإسلامية، وفي مصر حيث ارتبط مشروع التعليم بمحمد علي ولكنه تعرض لاحقاً لنكسات متعددة. كذلك تابع فرو ظهور الصحافة وانتشارها حتى الحرب العالمية الأولى. اعتماداً على قياسات كمية للمدارس والتلاميذ والأمية وانتشار الصحافة من جرائد ومجلات إضافة إلى النظريات الحديثة حول القومية.

يعرض فرو أطروحته المركزية: إن ضعف التعليم ومحدودية انتشار الصحافة جعلا النخب الحديثة غير قادرة على خلق ثقافة متجانسة ومعيارية تكون أساساً للهويات الحديثة، فالجمهور المخاطب والمستهلك لهذه الثقافة كان محدود الحجم ولا يشكل إلا فئة صغيرة، مما جعل الهويات الحديثة ضعيفة وغير قادرة على تحدي الهويات التقليدية للناطقين بالضاد، الذين بقوا- في غالبيتهم- ينظرون إلى أنفسهم وإلى الآخرين من خلالها.

كرس فرو الفصول الثلاثة الأخيرة لمناقشة مستفيضة لخطابات الهويات الجماعية لدى النهضويين في مصر وبلاد الشام والسياقات السياسية والاجتماعية التي وجدوا أنفسهم فيها وحكمت تطورهم الثقافي. فخصص فصلاً لخطابات الهويات الجماعية في مصر التي امتازت بوجود دولة مركزية وجهاز بيروقراطي موحد وتعليم خاضع للدولة منذ عهد محمد علي، حيث رصد خطابي هوية أساسيين إلى جانب هويات هامشية أخرى. الخطاب الأول يدور حول الوطنية المصرية الساعية إلى تجاوز انقسامات المصريين وتأكيد وحدتهم وتمايزهم عن غيرهم من المسلمين والعرب، حتى لو اشتركوا معهم بصفة أو أخرى مثل الدين أو اللغة. كان لطفي السيد الممثل الأبرز لخطاب الوطنية المصرية. في مقابله ظهر مصطفى كامل بوصفه ممثل الخطاب العروبي الإسلامي الذي أكد على انتماء المصريين إلى الهوية الإسلامية بوصفها الهوية الأكثر مركزية.

كرس فرو الفصلين الأخيرين لبحث الهويات الجماعية في بلاد الشام، التي امتازت بغياب الوحدة البيروقراطية تحت الإدارة العثمانية وبتنوع الجماعات التقليدية التي تقسم الشوام وقوة حضورها بفضل نظام الملل العثماني والتنوع الاثني في بلاد الشام. أشار فرو إلى أن نشوء خطاب وطني سوري فرض الحاجة إلى تحديد هذا الوطن نفسه، سورية، وهو ما حصل بفضل البعثات التبشيرية البروتستانتية، التي اعتمدت على الكتاب المقدس لتحديد الحدود الجغرافية للوطن السوري، وهي نفس الحدود التي اعتمدها النهضويون لاحقاً. كذلك أسهمت هذه البعثات بتأكيد الدور المركزي للعربية في الوطنية السورية لاعتمادها إياها في التعليم، بخلاف البعثات الكاثوليكية التي تحولت متأخرة إلى العربية. أسهمت البعثات البروتستانتية بعاملين أساسين في ثقافة النهضة وخطاب الوطنية السورية: الوطن السوري والنهضة الثقافية للغة العربية. هذا الربط بين الوطنية السورية والعروبة فتح باب الالتباس في دور العروبة في الوطنية السورية والعلاقة مع العرب الآخرين لاحقاً. بالتضافر مع نشوء وتطور الخطاب الوطني السوري بدأت فكرة العلمانية بالظهور. الفكرة التي تطورت لاحقاً إلى خطاب قائم بذاته وامتد تأثيرها إلى مصر مع هجرة الشوام إليها. لعب المسيحيون الشوام دوراً بارزاً في صياغة خطاب الوطنية السورية كما في تقديم فكرة العلمانية والدفاع عنها.

الخطاب الثاني كان الخطاب العربي-الإسلامي الذي حملته النخب الإسلامية، وقد تابعه فرو لدى العديد من النهضويين مثل عبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا وشكيب أرسلان ومحمد كردعلي وآخرين، كما تجلى في الصحف والمجلات التي أنشأوها. اعتماداً على تحليل الخطاب العربي- الإسلامي أظهر فرو عدداً من الالتباسات الحاضرة منذ البداية في هذا الخطاب، مثل التباس مفهوم الأمة المستعمل بصيغتين، الأمة العربية والأمة الإسلامية. الالتباس في العلاقة بين الإسلام والعروبة، العلاقة التي تعددت الآراء بصددها، إذ كانت هذه الآراء محكومة بالعلاقة بين العرب والأتراك داخل الدولة العثمانية والتطورات السياسية التي شهدتها منذ عهد عبدالحميد الثاني، وصولاً إلى جماعة الاتحاد والترقي والحرب العالمية الأولى لاحقاً وما شهدته من أحداث.

غير أن فرو يؤكد، أنه وعلى رغم تباين موقف النخب الإسلامية في الموضوع، إلا أنها وفي شكل عام حافظت على ولائها العثماني حتى النهاية.

يُحسب للكتاب تقديمه لاختبار تجريبي لنظريات القومية وقدرتها التفسيرية في شرح ظهور الهويات الحديثة وضعف انتشارها في المشرق العربي. من الأمور التي غابت عن الكتاب، الاهتمام بوسائط النقل والمواصلات التي سمحت في السياق الأوروبي بربط امتداد مكاني واسع داخل حيّز زمني محدود، فلم يعد الناس محصورين بقُراهم أو أقاليمهم التي نشأوا فيها، بل تعرفوا على حيّز مكاني أوسع أسهم في توسيع فكرتهم عن «جماعتهم».

هناك نقطتان تستحقان الذكر، الأولى غياب رصد الحركات والأحزاب السياسية وبداية السياسات الجماهيرية، باعتبارها المجال الذي تتجلى من خلاله العلاقة بين النخب والجماهير، حيث اقتصر تحليل فرو إلى حد بعيد على السياقات التاريخية للمثقفين وخطاباتهم. الثانية، على رغم مسعى فرو للتمييز بين الهويات الحديثة والقديمة، وتحديداً في ما يخص العروبة، إلا أن العلاقة بقيت ملتبسة، بخاصة أن العديد من الهويات الجماعية التي تناولها كان لها أساس في جماعة تقليدية ما، وهذا ما يفسر تنوع خطابات الهويات الجماعية في بلاد الشام قياساً بمصر. فالخطاب العربي- الإسلامي كان خطاباً يحمل هموم ومخاوف وطموحات جماعة ذات هوية تقليدية وهي الجماعة العربية المسلمة المدينية، وهذا ما سمح بدوره باستمرار حضور أبعاد تقليدية داخل خطاب الهوية.

إن ضمور رصد العلاقة الاجتماعية بين النخب والبيئات التي سعت إلى أن تكون ناطقة باسمها كان الغائب الأكبر عن عمل فرو، والذي بقي إلى حد كبير مقتصراً على تحليل نصّي للخطابات الهويات الجماعية.

* كاتب سوري

اضف رد