
مالك التريكي
Jun 02, 2018
لعل العنوان ذاته قد تكرر في نشرات الأنباء في معظم البلدان الإسلامية. لست أدري. ولكني فوجئت الخميس، الموافق للنصف من رمضان المعظم، أن بين عناوين نشرة الأنباء في التلفزة الوطنية التونسية عنوانا يقول: العائلات التونسية تبدأ الاستعدادات لعيد الفطر المبارك! منذ الآن؟ أي نعم. والاستعداد المقصود، بطبيعة الحال، هو الإقبال على الأسواق لشراء هدايا الأطفال والمواد اللازمة لصنع الحلويات. وكانت الأيام السابقة على بداية رمضان قد حفلت هي أيضا بالتقارير التلفزيونية بشأن الاستعدادات لشهر الصيام. والاستعداد المقصود، بطبيعة الحال، هو
الإقبال على الأسواق لشراء المواد الغذائية اللازمة لتحويل شهر الصيام إلى شهر الإفراط في إشباع شهوة الطعام.
ويبدو أن الاهتمام المفرط بالأكل في رمضان ليس أمرا طارئا علينا، بل إنه من قديم عاداتنا.
حيث أن حادثة تتعلق بالأكل في رمضان كادت تتسبب، عام 1833، في اندلاع حرب بين المملكة التونسية ومملكة نابولي! إذ مما يرويه المؤرخ أحمد ابن أبي الضياف في كتابه الممتع «إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان «أن القيّمين على قصر الباي (الملك) أوقعوا بالخدم، الذين كان جميعهم من رعايا مملكة نابولي، أشد العقاب الجسدي لأن النوم غلبهم ذات ليلة فتخلفوا عما جرت عليه العادة من إيقاظ أهل القصر قبل الفجر لتناول السحور. يقول ابن أبي الضياف: «وفي رمضان من السنة 1248 وقعت وحشة بين حسين باشا باي ودولة النبلطان بسبب أنفار من نابولي مستخدمين في سرايته لتنظيفها ومناولة سكانها ما يلزم لضرورياتهم، غلبهم النوم في ليلة من ليالي رمضان، فلم يسمعوا علامة السحور، وأيقظتهم علامة الإمساك، فلم يهيئوا موائد السحور للمماليك حتى حان وقت الفجر وأمسكوا بلا سحور. فاغتاظ عليهم رئيس المماليك بالسراية، وهو أبو النخبة مصطفى باش مملوك، فأمر بضربهم. وعاثت في أرجلهم أيدي الضرب المبرح، ففزعوا إلى قنصلهم بحرارة ما نالهم. فلم يسعه إلا القدوم إلى الباي (…)».
سأل قنصل نابولي الباي إن كان قد بلغه ما حل بالخدم النابوليتان، فأجابه: بلغني، وقد غفلوا عن واجب خدمتهم، وكل من غفل عن واجبه يلزمه الأدب. فقال له القنصل إن العقاب (بالفلقة) كان مفرطا في العنف ولم يكن مجرد ضرب للتأديب، «وإن شئت فانظر إلى أرجلهم وما حل فيها من الأثر». ثم تمت مقابلة ثانية في اليوم ذاته أعاد فيها القنصل على أسماع الباي ما وصفه ابن أبي الضياف بـ«خطاب التحنّن وما يقتضيه الحق». فماذا كان جواب الباي أثناء ذلك كله؟ ظل يقول: «عادة بلادنا تأديب خدمنا بالضرب وغيره»!
ولكن هذا التعنت لم يدم طويلا، حيث يروي ابن أبي الضياف، وقد كان شاهد عيان، أن القنصل كاتب دولته «فأتى منها أسطول به البرنجبي الكولير كراشلو، فطلب عقاب المتعدي على هؤلاء بالضرب، ونشر راية دولة نابولي وإظهار احترامها بإطلاق واحد وعشرين مدفعا حتى يظهر للعيان أن احترام الدولة لم يمسه شيء، والاعتذار عن هذا الخطأ بالكتابة، وما لزم الدولة من مصروف الأسطول». فما كان من الباي ـ بعد أن أدرك أن مجرد سحور زائد أو ناقص في رمضان ليس سببا كافيا لإحداث أزمة، ناهيك عن إعلان الحرب ـ إلا أن استجاب لكل هذه المطالب! فتمّ توبيخ رئيس المماليك ومنع من الخروج شيئا من الزمن لما صدر منه من الخطأ (باعتبار أن) تعظيم الراية بالمدافع اعتراف بالخطأ. وكاتب الباي البرنجبي بمكتوب محبة واحترام في الثاني من ذي الحجة 1248.
بل إن هذه القضية كادت توقع ابن أبي الضياف نفسه في محنة. ذلك أن هؤلاء الخدم النابوليتان قد كانوا في الأصل أرقّاء، وأنهم لما أعتقوا اختاروا المكوث في تونس والعمل أجراء. ولهذا قال القنصل للباي إنه ليس من حق المستأجر أن يضرب أجيره، بل قصارى الأمر إنهاء خدمته وطرده. يقول ابن أبي الضياف: وكدت أن أمتحن في النازلة، لولا لطف الله وصفاء باطنة هذا الباي، لأنه نظر إلي وهو حنق، مع أخلاق الصائمين، وقال لي: ما تقول؟ فقلت له: يا سيدي الضرب غير مدخول عليه في الإجارة لأنه أمر مجهول، وهؤلاء أحرار. فعظم ذلك عنده، وقال: يقال بحضرتي لفظ حر؟! وجعل يكررها وينقمها علي. ونادى أبي وقال له: هذا كيف تربّى؟ فقال له: نعلم أنه لا يصلح للخدمة (..) فدونك وإياه. فقال: يقول هؤلاء أحرار! فقال له أبي: هذا من جهله وعدم تخلّقه بالسياسة.
٭ كاتب تونسي