
مالك التريكي
القدس العربي
06032021
من بدائع القنوات التلفزية والإذاعية الخاصة، التي انتشرت في تونس بعد 2011 انتشارا عشوائيا ساهم في توسيع مساحات التفاهة والرداءة، أني سمعت قبل عامين أو ثلاثة مذيعا شهيرا ينطق اسم طرفة بن العبد بضم الطاء وتسكين الراء، أي باعتباره طرفة من الطرائف! كان ذلك آخر عهدي بالإعلام غير العمومي إلى أن طالعنا هذا الأسبوع خبر المذيع الذي حكمت عليه «خفة ظله» بالتهكم على طه حسين!
لا يقتصر السقوط الإعلامي في هذه الواقعة على العيب الأخلاقي، أي عدم معرفة حقيقة الآية الكريمة «فإنها لا تعمى الأبصار وإنما تعمى القلوب التي في الصدور». بل إن السقوط يشمل كذلك العيب الثقافي المتمثل في عدم معرفة حقيقة ما كان من وشائج روحية بين تونس، بنخبها السياسية والثقافية وجمهورها المتعلم، وطه حسين. إذ فضلا عن أن لطه حسين مكانة لا تضاهى في قلوب التوانسة، الذين لم يحبوا في القرن العشرين أديبا عربيا بمثلما أحبوه، فإن علاقته ببلادنا بدأت منذ عام 1911. إذ كان آنذاك شابا مغمورا، لكن هذا لم يمنع الشيخ عبد العزيز الثعالبي من أن ينشر له قصيدة في جريدة «التونسي». ثم توطدت العلاقة بينهما لما أقام الثعالبي في القاهرة في الثلاثينيات، تماما كما توطدت العلاقة بين طه حسين وبورقيبة أثناء هجرته المصرية في الأربعينيات. فقد كان الزعيم التونسي يختلف إلى بيت طه حسين، وكان بينهما من التوافق الفكري ما أدى إلى حرص بورقيبة على أن يقترن ميلاد الجامعة التونسية، فجر الاستقلال، باسم طه حسين.
ذلك هو السياق الذي تنزّلت فيه زيارة طه حسين لتونس عام 1957، قبيل إعلان الجمهورية بأقل من شهر، لمّا كان الأمين باي ملكا بعد وبورقيبة رئيس وزراء والأمين الشابي (شقيق الشاعر أبي القاسم) وزيرا للمعارف. والقصة أن محمود المسعدي أشار على الشابي باستضافة المستشرق الفرنسي الشهير ريجيس بلاشير لرئاسة لجنة امتحانات السنة الأولى في دار المعلمين العليا (التي كانت نواة للجامعة التونسية الوليدة). إلا أن محمد مزالي أشار بدعوة طه حسين. وقد سارع «قاهر الظلام» بتلبية الدعوة، فترأس لجنة الامتحانات وأعلن أسماء الفائزين (الذين كان في عدادهم البشير بن سلامة الذي سيصير لاحقا مدير تحرير مجلة “الفكر” ووزيرا للثقافة). ومما رواه لي الأستاذ بن سلامة أن طه حسين ألقى يومها في الفائزين خطابا استبشر فيه بنجابتهم، وحضهم على الاضطلاع بمسؤولية توطيد دعائم الثقافة العربية في تونس عقب ليل الاستعمار الطويل.
كان طه حسين هو الذي عرّف المشرق العربي بالتونسي محمود المسعدي والمغربي عبد الله كنّون والجزائري مولود معمري
كما ألقى محاضرة أدبية، بعنوان «رحلة فنية» في قاعة سينما البالماريوم أمام جمهور حاشد كان يتقدمه بورقيبة وجميع أعضاء الحكومة وسفراء الدول العربية. وكان من تواضعه أنه قبل حضور حفل المعهد الصادقي وتسليم الجوائز للمتفوقين من خريجيه. وقد كان بين هؤلاء التلميذ عز الدين باش شاوش الذي سيتشابه مساره بعدها مع مسار طه حسين فيصير مثله أستاذا في اللغة اللاتينية والأدبين العربي والفرنسي، ثم يصير رئيسا لبيت الحكمة كما كان طه حسين رئيسا لمجمع اللغة العربية.
وكان مما أثر في وجدان طه حسين أن مشائخ الزيتونة، وعلى رأسهم عميدها الشيخ الإمام الطاهر بن عاشور وابنه الفاضل، قد استقبلوه ببالغ الحفاوة أثناء حفل اختتام السنة الدراسية بالجامعة الزيتونيّة. وسبب التأثر، في ما يذكر أبو القاسم محمد كرّو في كتابه القيّم «طه حسين والمغرب العربي» هو أنه «لم يتعود على مثل هذا التفتح والتعلق بالحداثة من شيوخ الأزهر، فضلا عما سجله الشيخ بن عاشور من نعوت العبقرية والنبوغ لطه حسين». كما أنه تأثر «بوجود طالبات فائزات بالجوائز والشهادات الزيتونية، الأمر الذي لم يكن قد حدث بعد مثله في الأزهر». وقد ارتجل طه حسين كلمة كان مما قال فيها «إني لأسعد الناس بما أتاحه لي السيد رئيس الحكومة التونسية الصديق العزيز الحبيب بورقيبة حين تفضل فدعاني لزيارة تونس (..) وما أكثر ما دعيت (من قبل) لزيارة تونس فأبيت: كرهت أن أزورها وهي خاضعة لغير أهلها». كما أثنى على كلمات الشيخ بن عاشور، قائلا إنها «تدل على أن تونس قد سبقت البلاد العربية كلها، لا أستثني منها بلدا، إلى هذا الذي صبا إليه المصلحون والأستاذ الإمام محمد عبده بنوع خاص من هذه الملاءمة بين حياة الدين وحياة الدنيا».
وفي 3 أغسطس/آب 1957 نشر في «الجمهورية» مقالا، بعنوان «تونس» لخص فيه رحلته وأشاد بما شهده من إجراءات تحديثية في مجالات التعليم والقضاء وقانون الأحوال الشخصية.
كان طه حسين هو الذي عرّف المشرق العربي بالتونسي محمود المسعدي والمغربي عبد الله كنّون والجزائري مولود معمري. والظن عندي أن أهل الوفاء ما هم بمنكرين علي قولي بأنه قد كان لتونس الناهضة المستنيرة في السياسة والثقافة أستاذان حبيبان: الحبيب بورقيبة والحبيب طه حسين.
كاتب تونسي