
وسام سعادة
القدس العربي
06122021
الكتاب الأخير، الصادر قبل بضعة أشهر، للاقتصادي الفرنسي، توما بيكيتي، «موجز تاريخ للمساواة» يصلح أن تُتّخذ منه منافحة عن فكرة التقدم على الصعيد العالمي. ولعلّ إعادة الوصل بين فكرتي التقدّم والمساواة هي أثمن ما قدّمه بيكيتي في هذه المقاربة للتاريخ المقارن لأشكال اللامساواة بين الطبقات وبين الأمم وأشكال تجاوزها المستمر والمتواصل، أقلّه منذ نهاية القرن الثامن عشر إلى اليوم.
المساواة، منظوراً لها، على الأمد الطويل من عمر الحداثة، تتقدّم، لتحتل مساحة أوسع من حركة الواقع. التاريخ يتقدّم في الإتجاه المساواتي. حتمية؟ فليكن، هذا ما لم تكن الحتمية مساراً خطّيّاً أو تلقائياً. وبيكيتي يذكّرنا غير مرة على مدار الكتاب بأن تاريخ التقدّم الاجتماعي في الإتجاه المساواتي لا هو بهادئ ولا بمسالم، وإنّه بالقدر الذي تشغل فيه الانتفاضات والثورات والصراعات الاجتماعية والأزمات دوراً مركزياً في صناعته، فإنه يعرف أيضاً أطواراً من الانكماش الهوياتي ورجعة القهقرى، الا أن ذلك لا يمنعه من التشديد على أن عالمنا اليوم أكثر مساواة منه في منتصف القرن الماضي منه قبل ذلك بمئة عام، وانّ التذكير بهذا المنحى يعود بالنفع على جدوى النضالات الراهنة والتطلعات المستقبلية، سيّما وأن قضية توسيع مدارك المساواة باتت أكثر من ذي قبل تداخلاً مع قضية المناخ والتصدي للاحتباس الحراري وحماية التنوع البيئي ودرء التحمّض عن المحيطات.
ومع دراية بيكيتي بأن البحث في مستويات اللامساواة وتخفيض حدّتها يختلف بحساب زاوية النظر، ان كانت متعلقة بالوضع القانوني أو بالتملك أو الدخل أو المستوى التعليمي أو الجندر أو التحدر أو الجنسية، فإنه يثابر على الاستنتاج نفسه: العالم قطع أشواطاً أساسية في القرنين ونصف الأخيرين باتجاه المزيد من المساواة ما يرتبط بشكل أساسي بآليات اعادة توزيع الثروة بين الطبقات وعلى الصعيد العالمي، دون ان يختزل فيها. وعند بيكيتي أن اللامساواة هي في أساسها تركيب اجتماعي وتاريخي وسياسي، ليس فقط بالمعنى الأعم، ان قُصِد به نفي أن تكون هذه اللامساواة طبيعية، أو لها مصدر راكز في الاختلافات «الطبيعية» بين البشر، ولكن أيضاً وبشكل أساسي، لأن كل مستوى يمكن أن يبلغه التطور الاقتصادي او التكنولوجي في مجتمع ما يمكن ان تُفَصَّل عليه أشكال مختلفة من التنظيم الاجتماعي للملكية والحواجز بين الناس والنظامين الضريبي والتعليمي. بالتوازي، يحرص المفكر الذي ذاعت شهرته عالمياً في إثر مؤلفه «رأس المال في القرن الحادي والعشرين» على التشديد على فكرة أساسية، فيها أيضا صدى للردود على أنماط من النقد سُدّدت له على خلفية «مقترحات الحل» في كتبه السابقة.
فبيكيتي يجاهر بعدم كفاية دراسة تاريخ تطور منحى المساواة انطلاقاً من دراسة النضالات وتحولات توازن القوى المجتمعية. ولئن اعتنى بأهمية ليس فقط الصراعات الاجتماعية بل كذلك الأزمات والكوارث والحروب في إعادة تصليب الحجّة المساواتية عند كل منعطف، واللفت الى الأهمية الكوكبية لفكرة التقدم في تحقيق معايير المساواة في كل مجتمع أكثر فأكثر، فإنه يشدّد في الوقت نفسه على عدم كفاية كل هذا. ذلك أن تاريخ التقدم نحو المساواة لا يمكن أن يبحث بمعزل عن مأسسة هذا التاريخ، وكيفية اندراجه في سياسات دول وحكومات وأنساق.
لعلّ إعادة الوصل بين فكرتي التقدّم والمساواة هي أثمن ما قدّمه بيكيتي في هذه المقاربة للتاريخ المقارن لأشكال اللامساواة بين الطبقات وبين الأمم وأشكال تجاوزها المستمر والمتواصل، أقلّه منذ نهاية القرن الثامن عشر إلى اليوم
يذكرنا بأن التوافق على رفض المظالم أسهل من التوافق على ابتغاء المساواة مساراً وهدفاً، وأنّ التوافق على المؤسسات البديلة السانحة للمضي في هذا التطور المساواتي وان لم تكن مهمة مستحيلة فهي مضنية وتتطلّب جهوداً من مصادر عديدة. بالأخص بالنسبة للنضال المساواتي في عالم اليوم. تتطلب تداولا أوسع بمقترحات البدائل العملية والتقنية، ولامركزية في مقاربة الأمور. كذلك الاستعداد للتسويات والاحتكام لمحك التجربة والتعلّم من تجارب الآخرين، والتصالح قبل أي شيء آخر مع حقيقة أن المضمون الدقيق لمؤسسات تكون أكثر مساواتية لا يمكن ادراكه بشكل سابق على السعي والتجربة. ثمة منزلقان يدعونا بيكيتي للحذر منهما. منزلق من يستصغر أهمية النضالات الميدانية واليومية ذات المضمون الاجتماعي والبيئي، ومنزلق من يميل الى ابتهال هذه النضالات وتقديسها على حساب المآلات المؤسسية والسياسية، وعلى حساب دور الأفكار والرؤى الأيديولوجية في بلورتها. وهذا يحيل الى استرسال في الرغبات دون طائل. والتوهم بأن ثمة توافقا بديهيا أو تلقائيا على البدائل الملموسة يمكن أن ينبثق تلقائياً من مخاض الكفاح الاجتماعي.
التوهّم بأن التوحد في الشارع وفي التنديد بالنخب المكتنزة لرأس المال والثروات هو أمر يغني عن عناء التفاوض الاجتماعي حول البدائل الممأسسة. وتوهم أن تحديد الموقع الطبقي للطرح، على أهمية ذلك، بمقدوره ان يغني عن تقديم تصور برنامجي لمقاربة شاملة وسياقية في آن لمسائل التملك والضريية والتعليم والأجور. أيضاً، من النظرة الى حصيلة تاريخ المساواة، يركّز بيكيتي على ان التقدم باتجاه المساواة الاجتماعية، يتداخل مع التقدم باتجاه توطيد المساواة القانونية بين البشر، والاقتراع العام والديمقراطية التمثيلية والتعليم المجاني والاجباري والضمان الصحي الشامل والضريبة التصاعدية على الدخل والارث والثروة، والخطو باتجاه التشريك الإداري والحقوق النقابية. ولا يتناقض هذا برأيه مع كون كل مضمار من هذا على جانب من الهشاشة وعرضة للاهتزازات والضغوط للرجوع الى الخلف، فهذه مجموعة تسويات غير مستقرة، في حاجة الى اعادة تعريفها باستمرار. فالتقدم باتجاه القانون الدولي على أهمية ذلك من زاوية رصد المساواة على الأمد الطويل لا يلغي ان النظام الدولي القانوني لتجوال الرساميل هو بمنأى عن أي توجيه اجتماعي او بيئي جدي، وحرية الصحافة لا تلغي تآكلها بعد سطوة الأوليغارشية الميديائية عليها، والتعليم للجميع لم يجعله بنفس الجودة والمعايير للجميع، والضريبة التصاعدية ليست فكرة معلقة في الفضاء، بل ثمة حاجة لاعادة تأهيلها في كل مرحلة، والتفكير بآليات ليس فقط وطنية لها، بل كذلك لآليات عابرة للحدود. وعند بيكيتي أن القرن العشرين حتى مطلع عقد الثمانينيات فيه كان عصر اعادة التوزيع بامتياز. ورغم حكمه السلبي على التجربة السوفياتية الا أنه لا ينفي دور الضغط الذي مارسته على الغرب في تحقيق الدولة الاجتماعية فيه، وفرض الضريبة التصاعدية، وتعزيز الحقوق المدنية، مثلما لا ينسى التشديد على أن أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية لم تتمكن من اعادة إعمار بلدانها الا بالغاء المديونية العامة فيها، وانه ينبغي تمثّل ذلك عند كل مقاربة متعلقة بالعدالة للشعوب في عالم اليوم. يدافع بيكيتي في كتابه عن راهنية حقيقية لفكرة اشتراكية تكون لامركزية وبيئية وديمقراطية وبمستطاعها مواجهة طور «الرأسمالية الفائقة».
ولا يحول ربطه تطور الصين الحالي بهذه الرأسمالية دون أن يلحظ أن الملكية العامة فيها لا تزال قوية ولم تعد تتضاءل منذ مطلع هذه الألفية، وانه لا مناص من التعلم أيضا من تجربة الصين. كذلك لا تمنعه لامركزيته الصميمة عن مقاربة تعطي أهمية أساسية للمصارف المركزية، فهذه زاد دورها في اثر أزمة 2008 المالية والجائحة الحالية، والمعركة من أجل دمقرطتها من داخلها مفصل أساسي عنده، ويتصل بذلك فكرة اصدار هذه المصارف لعملات رقمية بامكانها أن تكون اكثر تصالحاً مع البيئة من عملة لامركزية رقمية كبيتكوين، وأقل لامساواتية من مشاريع عملات رقمية مركزية مثل ذلك الذي توخته شركة فيسبوك.
كاتب لبناني