مروان اسكندر
النهار
25082017
لقد ترددت كثيرًا قبل الكتابة عن توقعات مستقبلية تشاؤمية للنظام المالي والاقتصادي العالمي. لمحات من هذه التوقعات ادرجتها في كتابي الذي صدر بالإنكليزية قبل شهرين. (1)وقد استندت الى كتب ودراسات لعدد من الاقتصاديين الغربيين المعروفين، سواء في بريطانيا، الولايات المتحدة أو المانيا.
التركيز من جديد على التفكير الاقتصادي المتخوف نتج من قراءة مقال مطول صدر في جريدة “الفايننشال تايمس” في عدد نهاية الاسبوع بتاريخ 19 – 20 آب 2017.
يدون كاتب المقال آراء ستانلي فيشر “ستانلي فيشير” الذي هو اقتصادي مميز وهو نائب رئيس بنك الاحتياط الفيديرالي في واشنطن، وكان سابقًا نائب رئيس صندوق النقد الدولي. وبداية حياته المهنية كان استاذًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا”إم آي تي” عندما كان يدعو منذ السبعينات الى توسيع دور المصارف المركزية ليشمل مسؤوليات تطاول مستوجبات النمو. بكلام آخر، استبق منذ 30 سنة وتزيد الدور الذي سارعت الى توليه المصارف المركزية الاساسية عالميًا بعد تفجر ازمة عام 2007 – 2008 والتي لا تزال تأثيراتها واضحة ومقلقة حتى تاريخه أي بعد 10 سنين مذذاك.
خلال اسوأ سني الازمة 2007 – 2009، كان فيشر حاكم المصرف المركزي الاسرائيلي، وساعد على تجاوز اسرائيل الازمة بمقدار من الاستقرار، وقد استقال من منصبه بعدما شعر بان دوره استنفد، خصوصاً انه كان يدعو الى انجاز اتفاق بين الحكومة الاسرائيلية والفلسطينيين يمهد لحل الدولتين اللتين تتشابك مصالحهما، وهو اعتبر ان تعنت الحكومة الاسرائيلية حال دون تحقيق النتيجة المرجوة.
ومقابلات “الفايننشال تايمس” تنجز خلال تناول غداء مع المدعو تتناول الجوانب المهنية الرئيسية لمن يشارك فيها، وقد أدلى ستانلي فيشر بآراء تدعو الى الحيطة والحذر وبالتأكيد تستثير مخاوف كبيرة، وهو في تعبيره حمّل نفسه مسؤولية كبيرة، خصوصاً انه الرجل الثاني في المصرف المركزي الاميركي وكلامه يناقض تطلعات الرئيس دونالد ترامب والعديد من مستشاريه.
يقول فيشر إن السياسات الاميركية الحالية وخصوصاً من الكونغرس والتي مهدت لتطويق دور بنك الاحتياط الفيديرالي تسعى الى العودة الى الوراء، أي الى أوضاع المصارف والقطاع المالي قبل تفجر الازمة. بكلام آخر، يقول فيشر إن الكونغرس الذي يضم غالبية جمهورية والبيت الابيض الذي يقطنه رجل يبالغ في المطالبة بالتفلت من القيود التنظيمية، لا بد ان يعيد الرقابة الى دور بسيط ويلغي مفاعيل قانون دود-فرانك “دود فرنك أرت” الذي صدر عام 2010 وشرح تفصيلاً مستوجبات الرقابة في وثيقة مؤلفة من 874 صفحة.
ويرى فيشر أن الغاء تعاميم قانون دود-فرانك أو تجميد تطبيقها أمر بالغ الخطورة، وقصير النظر. كما يرى ان الدور المحوري للولايات المتحدة في المنظمات العالمية المختصة بشؤون المال والانماء، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، سوف يتبخر ولا يعود العالم الصناعي مرتاحًا الى الاعتماد عليه في تلك المنظمات، وتالياً النظام المالي والاقتصادي العالمي.
ويضيف انه كان له تصور واقتناع ان دور الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي ومؤسساته هو دور محوري يماثل دور المرساة للسفن في المرافئ.
ثم يقول إن الولايات المتحدة بدأت تخسر دورها كالقوة الوازنة في العالم، وهي كانت كذلك بعد الحرب العالمية الثانية التي كرست الدولار والولايات المتحدة قاعدتين للنهضة الاقتصادية والاعمارية ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت بريطانيا حتى تاريخ انتهاء الحرب العالمية الاولى تعتبر الركن الاساسي في التجارة العالمية والتأثير النقدي، لكن الجنيه الاسترليني فقد أهميته الدولية عقب الحرب العالمية الاولى، ومن ثم بعد تخطي تأثيرات الازمة المالية والاقتصادية التي استمرت من عام 1929 والى 1933 وبدأت في نيويورك وتعممت على البلدان الاوروبية، اصبح الدولار العملة الاهم ولا يزال حتى تاريخه لان 65 في المئة من التجارة العالمية تجرى بالدولار.
ستانلي فيشر هو حاليًا في الاحتياط الفيديرالي رئيس لجنة الاستقرار المالي التي أسسها مجلس الاحتياط بعد تفجر ازمة 2007 – 2008. وهو بصفته رئيس هذه اللجنة التي مهمتها المحافظة على الهدوء في الاسواق والتحقق من صحة المعاملات، يرى ان توجهات الكونغرس والرئيس ترامب قد تلغي جميع اجراءات التحوط التي أقرت في القوانين والممارسة.
وهو يعتبر الجهود والتوجهات للتفلت من قيود التنظيم والاشراف بالغة الضرر بالاستقرار وقيمة العملة، بل انه يقول ان هذه التوجهات يمكن وصفها بالجنون “مايند بوغلينغ” وانها ستؤدي الى نتائج بالغة الخطورة.
هنا نأتي الى النتائج الخطيرة على العمل المصرفي الدولي وعلى توجهات المودعين في لبنان مثلاً.
ان المنهجية التي ينادي بها الفريق المناصر للتخلي عن شروط الرقابة والتحوط والذي حقق نجاحًا كبيرًا منذ 2014 بقرارات من الكونغرس جمدت بالفعل شروط قانون التحوط، ستسمح للبنوك الاميركية في الولايات المتحدة وخارجها بالتفلت من شروط الرقابة ان على صعيد الرسملة أو مقاييس المخاطر، وهذه البنوك ستقبل الودائع دون اخضاع المودع لتحقيق الـ”كي يو سي” اي معرفة الزبون وتاريخ حصوله على المال وأوضاعه العائلية الخ.
تجاوز البنوك الاميركية الـ”كي يو سي” وغيرها من الضوابط، لا يعني البنوك في البلدان الاخرى. فأهمية الدولار في التبادل التجاري والسياحي تفرض على البنوك في مختلف بقاع العالم التقيد بتعليمات وقرارات وزارة المال الاميركية. بكلام آخر، اذا طلبت وزارة المال الاميركية، أو وزارة العدل، منع التعامل مع فلان أو فلان من عملاء بنوك غير أميركية ولوحت بعقوبات، تجد البنوك انها مجبرة على التعمق في التحقق والتزام الإشارات الأميركية.
وعلى العكس تمامًا، لا تجبر البنوك الاميركية على التزام المعايير ذاتها، وهذا الامر قد يؤدي – مع ارتفاع الفوائد في الولايات المتحدة – الى تقزيم حجم القطاع المصرفي الدولي غير الاميركي، فتستطيع الولايات المتحدة فرض شروطها الحقيقية على البنوك غير الاميركية واعفاء بنوكها من شروط اجتذاب الودائع الى الولايات المتحدة، واستعادة اهمية الدولار عبر القوانين والتوصيات الاميركية التي تطبق على الغير وتتجاوز البنوك والمؤسسات المالية الاميركية.
من المؤكد أن نتيجة كهذه تعزز الدولار وتؤدي الى ايذاء البنوك غير الاميركية وتخالف قواعد اتفاقات بريتون وودز المنجزة عام 1944 لتنظيم الاقتصاد وحركة الاموال في فترة ما بعد الحرب. وكانت الاطاحة الأولى لذلك الاتفاق، تعليق الرئيس ريتشارد نيكسون التقيد بقاعدة أونصة الذهب مقابل 35 دولاراً.
صدر حديثا لمروان اسكندر Central Banking In Uncertain Times(1)