نستعيد في #نهار_من_الأرشيف تقريراً كتبه بول قطان في “النهار” بتاريخ 22 تشرين الثاني 1995 حاملاً عنوان: “ما حصل بتماثيل رجال الأستقلال بعدما دمرتها الحرب بقي رأس بشارة الخوري ورمم رياض الصلح في سوريا حبيب أبو شهلا متأهب للعودة وعبد الحميد كرامي تحول أشلاء”.
اوفد رئيس الجمهورية ممثلين عنه لوضع اكاليل من الزهر على اضرحة رجال الاستقلال تخليدا لذكراهم. الدولة تفكر بهؤلاء في 22 تشرين الثاني من كل عام، تنحني اجلالا امام تضحياتهم وتقف دقيقة صمت حدادا على ارواحهم. ولكن، هل يتذكر رجال الحكم ان اسلافهم كرموا في ما مضى الزعماء الاستقلاليين واقاموا لهم تماثيل عدة كانت منتشرة في بيروت والمناطق؟
بدلا من زيارة القبور والاضرحة، كان الرؤساء الثلاثة قبل الحرب يحرصون على زيارة الاماكن التي ركزت فيها هذه التماثيل، ويستعيدون ذكرى اصحابها الذين تمردوا على سلطة الانتداب وتكاتفوا لانتزاع حرية وطنهم. اين الدولة حاليا من هذا الحدث السنوي؟ هل خطر في بالها بعد خمسة اعوام من انتهاء الحرب ان تسأل عما حل بهذه التماثيل؟ هل فكرت في البحث عنها او عن “رفاتها” بعدما اردتها المعارك، تمهيدا لترميمها واعادتها الى قواعدها سالمة؟
الحق ان هذه التماثيل التي كانت تذكر اللبنانيين بحفنة من الزعماء، صارت بدورها ذكرى، وربما تحتاج الى نصب تذكاري يؤرخ لرفعها على المنصة في احد الايام وسقوطها عنها في زمن الحرب. هل ماتت؟ المقاتلون لم يستثنوا تمثالا واحدا من رصاص بنادقهم، فنحتوه مرة جديدة باسلحتهم ووضعوا لمساتهم الاخيرة عليها بنسف قواعدها وتحويلها ركاما. ويبقى السؤال: هل ماتت التماثيل فعلا ولحقت بركب اصحابها؟ ام انها لا تزال حية وتنتظر ان تخلع عنها ثوب التهجير فتعود الى حيث كانت؟ يبدو انها لم تلق مصيرا مشابها، فبعضها تم ترميمه فيما دمر البعض الاخر او فقد. فنصب المغفور له الرئيس بشارة الخوري دفع ضريبة الدمار بعدما بات “شارع بشارة الخوري” خط تماس وكان استضافه لاعوام قليلة. وكانت النتيجة تدمير التمثال وتفجير منصته.
لا يشبه والدي الرأس وحده نجا، ويحتفظ به حاليا نجل الرئيس الشيخ ميشال الخوري: “احد ضباط الجيش سلمني اياه في الثمانينات بعدما انتشله من ارض المعركة. وهو لا يزال مشوها ومثقوبا. في اي حال، لا اهتم كثيرا لامره لانه لا يشبه والدي، ونحتفظ في العائلة بتمثال صغير افضل منه نضعه كل عام امام المدفن في ذكرى الاستقلال. تمثال الرئيس الاستقلالي الاول ازيحت عنه الستارة عام 1971 في عهد الرئيس سليمان فرنجية، ونحته الفنان سميح العطار بعدما فاز بمسابقة تمهيدية اجرتها الدولة لاختيار افضل نحات. وكانت ابنة الرئيس اوغيت كالان اصرت على عدم الاستعانة بنحاتين اجانب وحصر الموضوع بفنانين لبنانيين. وتولت بلدية بيروت دفع تكاليف المنحوتة. وللخوري تمثال اخر في ساحة بيت الدين، قال عنه ابنه ميشال: “انه افضل بكثير من الاول ويشبه الرئيس الى حد بعيد، ولكنه اختفى ايضا خلال الحرب ولا ادري ما اذا كان دمر او سرق”.
آل الخوري لن يقترحوا على الدولة اقامة نصب جديد للرئيس الراحل، “فعليها ان تبادر بنفسها الى القيام بهذا الامر، على ما قال الخوري، لان ذكرى والدي ليست ملك عائلته فحسب بل هي تراث وطني. اوفر حظا تمثال الرئيس رياض الصلح كان اوفر حظا. فبعد تدميره في الساحة التي تحمل اسم رئيس الوزراء الراحل وتهديم قاعدته عام 1980، تدخل رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات بنفسه وقام بنقل “جثمانه” الى قصر آل الصلح في بئر حسن. وروت السيدة بهيجة الصلح ابنة الرئيس “ان العماد مصطفى طلاس اتصل بشقيقتي منى ونقل اليها اقتراحا من الحكومة السورية بترميم النصب على نفقة العاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز. حصل ذلك قبل ستة اعوام، فنقل التمثال الى سوريا واعادته مجموعة من النحاتين الايطاليين والسوريين الى سابق عهده. ونحن مستعدون لنقله الى مكانه المعتاد عندما تطلب منا الدولة ذلك”. يجسّده بدقة!
من مميزات هذا النصب انه يجسّد ملامح الرئيس الصلح بدقّة، وقد نحته الفنان الايطالي مازاكوراتي الذي نفذ تمثال الشهداء. واوردت السيدة بهيجة في هذا الاطار “ان النحات جاء الى لبنان بناء على طلب الحكومة ومكث عندنا وسألنا عن شخصية الرئيس الصلح واستعان بعشرات الصور عند تنفيذ التمثال”. ولادة النصب التذكاري جاءت بناء على الحاح ابناء بيروت بعد اغتيال الصلح عام 1951. وقد ازيحت عنه الستارة في احتفال رسمي عام 1957 حضره رئيس الجمهورية كميل شمعون واركان الدولة وعائلة الراحل. باق واعمار الطغاة… اما تمثال الرئيس عبد الحميد كرامي في طرابلس، فأبصر النور في 24 تشرين الثاني 1963، على مرأى من سكان المدينة يتقدمهم الرئيس فؤاد شهاب ونجل الراحل رشيد كرامي الذي كان رئيسا للحكومة. وقد اقامت الدولة هذا النصب على نفقتها الخاصة. التمثال لم يصمد فترة طويلة امام اتون الحرب على رغم ان الشاعر الجواهري قال في صاحبه: “باق واعمار الطغاة قصار”.
ففي آب 1976 انفجرت عبوة ناسفة وضعت امام منصته فحولته اشلاء. وبقيت ساحة عاصمة الشمال الرئيسية تحمل اسم عبد الحميد كرامي في غياب التمثال. الرئيس عمر كرامي شدد على ضرورة “اقامة تمثال بديل يعلّم الاجيال الجديدة معنى التضحية. ولكن ليس في هذا الوقت، فالبلد لم يستعد بعد وضعه الطبيعي، وقبل عودة المهجرين لا يحق لنا ان نطالب الدولة بتشييد تماثيل جديدة لرجال الاستقلال”. واعتبر “ان مسؤولية اعادة التماثيل الى ما كانت وفي الوقت المناسب، تقع في الدرجة الاولى على عاتق الدولة، ونحن كعائلة لا نملك بديلا”. هوى… لكنه متأهب حبيب ابو شهلا رجل استقلالي آخر اقيم له نصب في بيروت وتحديدا في ساحة حملت اسمه قرب مبنى “الاونيسكو”. خلال الاحداث، نسفت قاعدة التمثال فهوى وبترت رجلاه، فسارع آل ابو شهلا الى استعادته واوعزوا الى احد النحاتين اللبنانيين ترميمه.
رئيس جمعية تجار بيروت نديم عاصي (ابن شقيقة ابو شهلا قال في هذا الصدد: “التمثال جاهز حاليا، وينتظر انتهاء الاشغال والحفريات في الساحة ليعود اليها. فالدولة سترمم المكان ونحن على استعداد لاعادة النصب الى منصته”. وفي ذاكرة عاصي “ان ولادة التمثال كانت اوائل السبعينات في عهد الرئيس فرنجيه: يومها، قدمت الدولة ارض الساحة وانشاءاتها وتحملت العائلة نفقات تنفيذ المنحوتة في ايطاليا”. ولابي شهلا تمثال آخر نصفي موجود حاليا في مقبرة كنيسة مار الياس بطينا في بيروت حيث ووري الثرى. مصادر العائلة اوضحت ان هذا النصب نحت مع التمثال الرئيسي في وقت واحد، وظل في منأى من التخريب طوال الحرب. وفي لائحة رجال الاستقلال الذين حظوا ايضا بتماثيل، الوزير سليم تقلا والشيخ بيار الجميل، فالاول اقيم له تمثال نصفي، ولم يعرف الشهرة التي عرفتها التماثيل الاخرى، اما الجميل فكرمه الكتائبيون في الثمانينات بنصب برونزي وضع في ساحة بكفيا، ولكن الحرب لم توفره ففجره مجهولون.