
حسن داوود
Mar 08, 2018
القدس العربي
هكذا يبدأ تشارلز بوكوفسكي روايته: «بعد يومين اتصل بي جون بيشو».
بعد يومين على ماذا؟ يسأل قارئ الرواية نفسه، أو يحاول الرجوع إلى الوراء، عله فوّت صفحة أو صفحتين حدث فيهما شيء مع جون بينشو هذا، أو ربما كانت هذه الرواية ملحقا، أو جزءا ثانيا من كتاب، أو هي فصل من سيرة حياة انقطعت عند ختام الرواية السابقة. وهذا الاحتمال الأخير مرجح، إذ لم يسبق لبوكوفسكي أن كتب شيئا غير متصل بشخصه وحياته، لكن مع ذلك يظل السؤال أعلاه في حاجة إلى إيضاح: كيف تبدأ رواية بعد انقضاء يومين على ما كان جرى قبلها، بدون أن تذكر لقرائها ما هو الذي كان جرى، علما بأنها لا تعود إلى ذكره في ما يلي من فصول؟ كيف يكون زمنها زمنا مستلحقا بزمن غير موجود، روائيا، لأن شيئا لم يُروَ عنه؟
لو سئل أحد الروائيين الكبار، غابرييل غارسيا ماركيز مثلا، عما يراه من أمر هذه البداية، لكان سيجيب ربما: لم يوفق بوكوفسكي في العثور على بداية ناجحة فاستعاض عنها بهذه، معتقدا (بوكوفسكي) أن هذه أيضا بداية ناجحة.
ربما كان هذا صحيحا، لكن بالمقلوب، إذ أن ما أراده بوكوفسكي هو أن يبدأ الكتاب من دون بداية. البداية حسبه تفتتح عالما يزعم كاتبه أنه عالم مجهول، أو عالم غريب، أو عالم مفارق، وهذا ما لا يحبذ الكتابة عنه. وهو، إمعانا في كشفه عن عادية التأليف الروائي، بل وسخافته، أي نزع كل قدسية أو إبداع عنه، ينهي الرواية هذه بجواب عن سؤال وجهته إليه زوجته سارة. قالت له: ماذا ستفعل الآن بعد أن انتهيت من كتابة سيناريو فيلم «زبون البار» فأجاب: سأكتب رواية أسميها هوليوود، وهذه هي، قاصدا الصفحات الثلاثمئة التي بين أيدي قرائه.
ووفقا له يجب أن تجري الرواية، أحداثا وأفكارا، بسلاسة وبدون تأمل أو تحليل أو تفكير زائد. لا أكثر من أنها تسجيل ليوميات يضع في ثناياها ملاحظاته السريعة عن كل ما يصادفه، هو بطل الرواية وكاتبها، بدون تعديل أو تهذيب، ما دام أن الشتائم التي ينطقها في عيشه اليومي تُكتب كما هي، والمشاجرات التي تحدث بينه وبين آخرين تكتب كما هي أيضا. ثم هناك العودة دائما إلى ماضيه الشخصي، إلى طفولته وفقره ونومه على قارعة الطرق أو في الفنادق الملحقة بعلب الليل، ثم شجاراته ورغبته في أن يَلكم ويُلكم. الرواية هذه تعريف إضافي به، بعد أن كان عرّفنا بنفسه، بطلا روائيا وحياتيا في أعماله السابقة، كما في ظهوره على شاشات التلفزيون، مثيرا كل أنواع الاعتراضات والاحتجاجات، واتهامه بأنه لا يريد من ذلك إلا تسويق تلك الصورة المتهتكة العابثة عن نفسه. لكنه في روايته هذه يبدو أكثر تعقلا. ربما بسبب ملازمة زوجته له في كل حادثة فيها، أو ربما بسبب تقدمه في العمر، لكون هذه الرواية هي آخر أعماله، حيث للصدفة أصيب بوعكة صحية أدت بعد ذلك إلى وفاته في التاسع من مارس/آذار عام 1994. أو ربما كان لهوليوود ذلك الأثر الملطف، إذ اضطرته رفقة النجوم إلى التخفيف من احتفاله بصورته. مجد النجوم ذاك الذي جعله ينتقد التصرف المزاجي لميكي رورك، النجم الذي عُهدت إليه البطولة من بعد أن كان النجم الآخر شون بين قد اقترح القيام بها. لم يكن ميكي رورك محبا للظهور، لكنه مع ذلك كان يشترط على الشركة المنتجة للفيلم أن تؤمن له سيارة رولز رويس مكشوفة السطح ليصل بها إلى مكان التصوير. وفي أحد المشاهد راح هذا النجم مع شلة رفاقه يرقصون رقصتهم العابثة، بأحذيتهم الثقيلة، على الرولس رويس تلك محدثين على سطحها وغطاء محركها تكسرات وحفرا. لا مجال للمقارنة بين نجومية تشارلز بوكوفسكي كاتب ســـيناريو الفـــيلم ونجومية بطــله ميكي رورك، أو بطلته فاي دوناوي التي يصـــف بوكوفسكي كل ظهور لها بالأبهة التي تضيء المشاهد وتملأها. لا مجال للمقارنة إذن بــــين حضوره هو، الذي يظل مهتما بأن يعرف مِن كل الذين يـصــــادفهم إن كانوا يعرفونه أو قرأوه أو سمعوا باســمه، ثم هناك التراتب الفاضح في الأجر الذي يحصل عليه هو ويحصل عليه النجوم، وهو يكرر مرات في الرواية كيف أن ما يتقاضاه الممثل الأول (البطل) يصل إلى 750 ضعفا مما يحصله هو كاتب السيناريو. ثم أنه، ومعه منتج الفيلم، ضحيتان لشركات الإنتاج التي تظهر في الرواية بخلاف الألق الذي نظنه في عالم السينما.
ذلك العالم المبهر قائم على علاقات مالية وقانونية تتسم بالقذارة والخزي، بما لا يشابه أبدا ما تعنيه فكرتنا عن السينما: «ألمال والسياسة والعلاقات هي ما يُدخل الأشخاص إلى عالم صناعة السينما، أما الموهبة فهي أمر ثانوي».
لا يطيق شركات الإنتاج، ولا يتحمل صلف الممثلين الذين يختلفون عن بقية الناس. تخيل أنك «تمضي ساعات طويلة، وسنوات طويلة، وأنت تتظاهر بأنك شخص آخر. لا بد لهذا أن يترك أثرا عليك، ويصبح من الصعب عليك العودة إلى ذلك»، خصوصا حين يتكرر ذلك مع كل دور جديد «بعد أن تحولت إلى عشرات الأشخاص، سوف يصعب عليك أن تتذكر من أنت».
كما أنه لا يحب السينما أصلا، فما أعجبه من تاريخها الطويل فيلم واحد أو فيلمان اثنان. ولا تعجبه هوليوود التي كتب الرواية هاجيا لها، متمكنا من النيل منها، حسب ما علقت صحيفة «الغارديان» على هذه الرواية التي: «استطاعت ملامسة قلب الفساد الذي يعتري صناعة السينما الأمريكية». لكن رغم كل ذلك لن يخفى على قارئ الرواية ذلك افتتنان بوكوفسكي، رغم الهجاء والسخرية، كونه كان هناك في هوليوود، فما يتحقق هناك يتخطى المجد الأدبي وفرادة الظهور الشخصي وكل شهرة سابقة تحققت.
رواية تشارلز بوكوفسكي «هوليوود» نقلها إلى العربية عبد الكريم بدرخان وصدرت عن «منشورات الجمل» في 317 صفحة ـ 2017.
٭ روائي لبناني
حسن داوود